على نهج الرسالة

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 103

لم يشأ أن يبقى مكتوف اليدين والبلد قد دنسه الغاصب، وفتوى الدفاع الكفائي تتردد في رأسه صباحًا مساءً، وعلى الرغم من كبر سنه وتجاوزه الستين عامًا، إلا أن اندفاعه لمواجهة شرذمة داعش صيرته شابا مليئًا بالإرادة والحيوية والإباء، فخاطب زوجته قائلًا: - يا شريكة حياتي ورفيقة الدرب العسير، لن أستطيع صبرًا بعد الآن، أشعر بأن دمي يحترق وأنا أجالس الجدران، أعلم أن صحتك ليست على ما يرام، وأنك بحاجة إلى الرعاية والاهتمام، لكن (خضير) سيكون إلى جانبك، وسيلبي حاجاتك في غيابي. أم خضير: توكل على الله ولا تكترث بي، فالله يرعى عباده أجمعين. جاءت كلماتها تداعب روحه العاشقة للدفاع والمضي نحو ساحات الوغى، فخاطب ابنه قائلًا: - بني، سأمضي وأخلفك بعدي، فاهتم بوالدتك ولا تهملها، هذا ما أرجوه منك. خضير: أنا فخورٌ بك يا والدي، واطمئن، فستمضي الأمور على ما يرام. وما هي سوى أيام قلائل حتى تهيأ أبو خضير للالتحاق والانطلاق نحو مدينة (الفلوجة)، مؤديًا واجبه على أكمل وجه، وعندما عاد في إجازته استقبله خضير متلهفًا، وأمضيا معًا وقتًا طيبًا وجميلًا، راح الأب يروي قصص البطولة، ويقص حكايات الجنود الشجعان، يرددها بصوته الجهوري الذي يزيد القصة إمتاعًا وتشويقًا. بقي خضير يرهف السمع مصغيًا بكل جوارحه، متصفحًا وجه أبيه، محركًا رأسه بين الحين والآخر في إشارة للموافقة أو لتعظيم ما يقول، بينما كانت الأم المسنة تعد وجبة الغداء البسيط، وتجلس تشاطرهم الاستماع والأكل على مهل، وتكرر الحال على هذا المنوال في كل شهر عند عودة الأب من الواجب المقدس، وبعد مرور أشهر على التحاقه، وفي أثناء تأدية الواجب حيث كان اليوم ترابيًا عاصفًا، والعدو قد أضرم حقده الأسود، مرسلًا مدرعة مفخخة، وبسبب العاصفة الترابية أخطأت قاذفة الـ(RPG-7) المدرعة، فظلت تتقدم نحو الساتر بخبث، حتى تصدى لها أحد الأبطال برشاشه، كان قد لف نفسه بالعلم، ووقف قبالتها بتحد مصوبًا طلقاته، لكن الشظايا اخترقت قلبه الشجاع، وفاض دم الأحرار، وسقط البطل أرضًا، فهب أصحابه يسحبونه إلى الخلف، وكان أبو خضير يراقب من بعيد وعيناه شاخصتان نحو ذلك البطل المقدام، مرددًا في سره: - بارك الله بأم ولدته، ما أشبهه بأنصار الحسين (عليه السلام). ولما هم بالاقتراب منه، استقبله الجنود بالبكاء والنحيب، ومنعوه من الاقتراب، لم يفهم أبو خضير ما يحدث، فكلما اقتربت خطواته، اشتد البكاء وازداد حاجز المنع، حتى تحركت يد الجريح تشير نحوه دون غيره، عندها توقف الجميع عن منعه، فتقدم الرجل المسن، وإذا به يرى ابنه خضير وهو في النزع الأخير، فتمتم قائلًا: - أبي سامحني، فلم أف بوعدي لك، فلقد شغلني حب الحسين (عليه السلام) عن أي شيء آخر. جمدت دموع الأب، وترك حجره يحتضن ولده الذي قضى نحبه بين يديه، وقد فهم للتو أن الجميع أخفوا عنه الأمر رأفةً بشيبته، وامتد الجمع المؤازر نحو الشهيد ووالده بقبلاتٍ، ودعواتٍ، ووداعٍ مرير، مخضبين بها دماء الشهيد الذي مضى على نهج الرسالة.