اعترافات طامورة

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 137

باردة أنا ورطبة، والظلام الدامس رفيقي، والصدأ يأكل قضباني، لا نافذة لي، ولا نسمة من الهواء.. أكاد أختنق، وقلبي لحالي يحترق، فأنا لست مثل باقي السجون! أنا طامورة تحت الأرض، لا أدري كم سلمة ينزلون حتى يصلون إلي، لكني أعلم أن الذي يسكن بين جدراني مذنب لا تغتفر جريمته، فأضيق عليه أنفاسه، وأزيد عليه نار حسراته، إلى أن أقضي عليه، فتخرج روحه من بين قضباني، إلى أن جاءوا برجل نحيل، قيدت السلاسل يديه ورجليه، والدماء تسيل من معصميه، تنفست غضبًا عليه، لكن بعد لحظات سمعت السجانين يتهامسون بينهم: ـ هل عرفته؟ ـ لا.. ـ إنه إمام الرافضة موسى بن جعفر، وهو سلطان على عرش قلوبهم، وبين شغافها يتربع. ـ أحقا؟ ـ وأكثر من ذلك، فهم يفدونه بأرواحهم، وعيونهم على فراقه من فرط الشوق تدمع. ـ وما الذي فعله حتى ينزلوه في هذه الطامورة التي لا يعرف ليلها من نهارها؟ ـ لم يفعل شيئًا! ذنبه الوحيد أنه تقي نقي، إمام زاهد ترك الدنيا وملذاتها، واشتغل بالآخرة وجزائها. تعجبت من حديث السجانين، ومال قلبي إليه، وأشفقت عليه ونظرت إلى معصميه، فناديت السلاسل: رفقًا به، لا تؤذيه، فأجابتني ودموعها قطرات من دمه: ـ إنه يتألم كلما تحرك، نحاول أن نبتعد عنه لكن لا نستطيع. رحت أراقب حركاته، فهو بين راكع وساجد، قائم ليله في محرابه، صائم نهاره، فتحولت ظلمتي إلى ضياء من جمال محياه، وتعطرت جدراني بالمسك والعنبر من عطر أنفاسه. أحببته، بل هام فؤادي به عندما سمعت صوت ترتيله لكتاب الله.. وجاءوه برطب ليتناوله، فأكل منه، فتلوى ألمًا، وتنهد حسرةً، فعرفت أنه الغدر وشممت رائحته النتنة، إنه السندي بن شاهك الذي استجابت نفسه الخبيثة، وأقدم على تنفيذ الجريمة، فاغتال سبط النبي (صلى الله عليه وآله)، وأزكى ذات في الوجود بعد آبائه (عليهم السلام).. فكيف أفارقه؟! سأذوب ذرةً ذرةً، وسأبكي لوعةً.. تهدمت أركان الطامورة، ودفنت نفسها حزنًا وكمدًا، وفي آخر الأنفاس نادت: في ذمة الله أيها الإمام العظيم.