لا تربيهم! بل أحبيهم
تطور العالم وتغير شكل الحياة، فحاول بعض الآباء مواكبة هذا التغيير، فانهمكوا بتربية أبنائهم انهماكًا شديدًا حرصًا منهم وخوفًا عليهم، فراحوا يطالعون كل مقالة وكتاب يقع في أيديهم عن التربية، ويسجلون أسماءهم في كل دورة تربوية، وصدقوا كل عبارة أو منشور عن التربية، ثم شرعوا يطبقون ذلك حرفيًا، لكن لم يتحسن شيء، بل نتجت أجيال أكثر تشوهًا من سابقاتها، هشة، تنهار بسرعة، وتفتقر إلى المرونة والحس السليم، وتكوين العلاقات العائلية والاجتماعية الوطيدة، أما عن تقدمهم في الحياة فمتخبطون، فكيف ومتى بدأ الخطأ؟ لماذا أنجبت أجيال الأجداد الكثير من الأبطال والحكماء والنجباء، في حين كل ما نراه اليوم هو حطام وبعض بقايا إنسان؟ وماذا نسينا في خضم كل هذا الضجيج؟ لم ننس في عصرنا شيئًا كنسيان الحب، فنحن نتذكر القيام بكل الأفعال الصائبة ونحرص عليها، فنعلم أولادنا أفضل تعليم، ونحرص على جعلهم يتصرفون بأنبل الطرق وأحسنها، ونميل إلى زرع القيم والمثل، ونحاول أن يكون طعامهم أفضل الأطعمة وصحية أكثر، وأوقاتهم نملؤها بأفضل الأنشطة الترفيهية والتعليمية، لكن هل أظهرنا لهم حبنا؟ هل قدمنا لهم دعمًا معنويًا حقيقيًا وليس من أجل التفاخر على وسائل التواصل الاجتماعي؟ فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا صعد الحسنان (عليهما السلام) على ظهره لا ينزلهما، وكان يلاعبهما ويلاطفهما، ويرفعهما إلى حجره إذا اقتربا منه في أثناء خطبته، وكان يقول: "من أحب الحسن والحسين أحببته، ومن أحببته أحبه الله"(1)، لكننا اليوم نقف عاجزين عن إظهار مشاعر الحب النبيلة، ساهرين على خطط تجعل أبناءنا في أحسن الأحوال كالآلات الرقمية، وكل ذلك من أجل إبهار الآخرين بنجاحنا في التربية، كأن الطفل منتج عائد إلينا وليس كيانًا منفصلًا كرمه الله (عز وجل)، وجعل له أقداره. الأطفال بحاجة إلى مساحاتهم الخاصة، والقدرة على المحاولة، وتحمل مسؤولية قراراتهم وعواقب أخطائهم، يحتاجون إلى المساحة نفسها التي حظي بها الآباء والأجداد، فالخوف والحرص الزائدان عن حدهما على الطفل يحرمانه من التجربة الواقعية، ويحرمانه من الحب، حب الآباء الصافي لأبنائهم، ودعمهم الصادق، وتوجيههم وإرشادهم الهادئ الذي يعود إليه متى ما احتاج إليه الابن، يحتاج الطفل إلى بناء صداقة قوية تمكنه من العودة إلى الأسرة متى ما احتاج، حتى يكون قويًا بأسرته، صريحًا معهم، فيعينونه ويساندونه في أوقات احتياجه، وكيف يتحقق ذلك؟ عندما يستمع الأب، وتصغي الأم، ولا ينهالان عليه بسيل النصائح، ولا يقللان من قيمة إنجازاته، ولا يوبخانه أو يؤنبانه بكثرة وفي كل وقت وأمام كل شخص، وأن يختارا سعادة الأبناء لا الناس الآخرين، إذ إن الطفل يرى والديه هما مصدر كل الخير، وإن حرم فلا سبيل لوصوله إلى الخيرات، وعليهما أن يوضحا له الأسباب والعلل خلف قراراتهما، لا أن تكون أوامر يخضع لها مكرهًا، وأن يكون كلامهما مطابقًا لأفعالهما، فالطفل لا يتعلم من الكلام وحده، بل على العكس قد ينفر منه وإن كان صحيحًا إذا كان صادرًا من شخص لا يطبق ما يقول، والأهم من ذلك، على الآباء عدم التركيز في حياة أبنائهم للتعويض عما لم يحصلوا عليه، فللأبناء حياتهم التي عليهم عيشها. وأيا كانت الطريقة التي نختارها للتربية، فعلينا الحرص على أمرين: أولًا: إدراك أن لكل طفل شخصيةً خاصةً، فما ينطبق على طفل قد لا ينطبق على الآخر، وأن لكل زمان خصائصه، فما كان عند أجيالنا صالحًا لم يعد الآن كذلك عدا الدين والقيم السامية، فهي ثابتة لكل وقت وجيل. ثانيًا: العودة إلى تعاليم الإسلام الحقة، فالإسلام دعانا إلى الرفق واللين والإحسان، والأقربون مقدمون في كل خير ومعروف. ومهما كانت ظروفك فتذكري أن الإنسان قد ينسى كل النصائح، لكنه لا ينسى حبا ولطفًا، بخاصة إذا كان من شخص يجده مهما، فكلنا كتلة من المشاعر. .............................. (1) بحار الأنوار: ج٤٣، ص275.