التوازن الكوني
خلق الله (عزّ وجل) المخلوقات بأشكال متنوّعة، ووظائف تتمايز بتمايز كينونتها وموقعها، لكنّها تشترك في أمر واحد هو من مظاهر عظمة الخالق جلّ وعلا، ألا وهو التوازن، فمثلًا خلق الكواكب والأجرام السماوية بآليّة محدّدة، تتحرّك في ضمن مسار يُسمّى (المدار) والذي يُعدّ خطّ المرور الذي لا يسمح للكواكب بالخروج عنه، بل يسيّرها بمسافات منظّمة ومتوازنة، وكذلك البشر قد تميّزوا عن سائر المخلوقات بقدرتهم الفريدة على السير المنتصب؛ نتيجةً لامتلاكهم أرجلًا طويلةً وقويةً مع وجود قوة الجاذبية الأرضية، وقد تمثّلت أعجوبة التوازن الكوني في أكثر المخلوقات دقّة وتركيزًا، تلك التي تتشكّل في هيأة جزيئات وتخضع للقوّة الكهرومغناطيسية التي تحيّد جريانها حتى لا تجتمع الأضداد ويختفي الكون برمّته، فتبقى بهيأة الذرّة العظيمة التي تطفو على قوّة تضاهي قوة الجذب بكثير. ولكن مثلما وهب الله تعالى للمخلوقات المادّية توازنًا، فقد جرى في حكمه أن تتوازن أرواح الأشياء والأشخاص في وجودها وبنائها؛ ليكتمل طرفي الحياة في داخلها وخارجها، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء:85)، فكيفَ نحقّق توازنًا لما نجهل حقيقته؟ فأهل بيت النبوّة (عليهم السلام) الأعلم بهذا التوازن من غيرهم، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض"(1)، فوضع بين أيدينا أحد أهمّ مناهج اتّزان الروح، ألا وهو (المناجاة الشعبانية)، فقد خصّ أمير المؤمنين (عليه السلام) شهر شعبان المبارك بمناجاةٍ أقرب ما تكون إلى حديث ودود، ورجاء خالص إلى الخالق يسبق شهر الضيافة الإلهية، وهو توقيت مقصود من أمير الدقّة، فقد ابتدأ (عليه السلام) هذه المناجاة بمفتاح الالتماس إلى الله تعالى بإقباله على هذه الخلوة، ليتكلّم الجسد بلسان الروح، ويستمرّ بآليّة الطلب والحمد، حتى يصل إلى القول الفصل الذي ترتكز عليه فحوى المناجاة: "إلهي هَبْ لي كمال الانقطاع إليكَ"(2)، فيتطرّق (عليه السلام) في جملة واحدة إلى أصل اتّزان الروح والذي غُيّب عن أبصار السائلين لا عن بصائرهم، فالانقطاع إلى شيء ما، يعني التوغّل فيه حدَّ الانفصال عن غيره من الأشياء، وهو ما يؤدّي في العادة إلى التطرّف، ومنه إلى التقصير في معظم الأشياء، أمّا أنموذج الانقطاع إلى الله (عزّ وجلّ) بأكمل صورة له على وجه التحديد، هو الذي كسر مادّية المعنى لهذه الكلمة، وأعطاها بُعدها الغيبي الذي عكس أهمّية العمل على اتّزان هذه الروح، فقد أعطى الإمام عليّ (عليه السلام) معادلةً من (6) كلمات أسندت مفهوم التوازن الروحي، فقد بيّن جزء الفطرة السليمة التي إن انقطعت إلى خالقها، خلقت تواجدًا عظيمًا في بيئتها، وإتقانًا لا محدود في أعمالها، فانقطاع الروح إلى موطن الانتماء هو شحنها اللامنقطع للتواجد في موطن البقاء، وهذا ما اختصرته جملة واحدة، قِيلت قبل قرون والتي ما يزال جوهرها مُبهمًا بالنسبة إلى البشرية جمعاء، فسرّ التوازن يقبع خلف السعي إلى معرفته دائمًا وأبدًا، وهو النفق الذي نجد في نهايته نور الوصول إلى آل السماء. ......................... (1) ميزان الحكمة: ج2، ص1218. (2) إقبال الأعمال: ج3، ص299.