رياض الزهراء العدد 203 أنوار قرآنية
مفهوم التفَكرِ في القرآنِ الكريم
يمتاز الإنسان عن سائر المخلوقات بالإدراك العقلي والفكري، وقد ميّزه الله تعالى بالتفكير إكرامًا وتشريفًا، وقد تميّز من الناحية المعنوية، حيث يستطيع أن يصل إلى الكمالات الروحية بواسطة التفكّر، وقد وردت مادّة (فكر) في القرآن الكريم في (18) آية، منها (13) آية مكّية، و(5) آيات مدنية، وجاءت مرّة واحدة بصيغة الماضي في معرض الذمّ في قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (المدثّر:١٨)، أمّا في بقيّة المواضع، فجاءت بصيغة المضارع وبألفاظ متعدّدة. و(التفكّر) لغةً: التأمّل(1)، وعند ابن فارس: (فكَرَ: الفاء والكاف والراء: تردّد القلب في الشيء، يُقال: تفكّر، إذا رَدَّدَ قلبه معتبرًا، ورجل فِكِّيرٌ: كثير الفكر)(2)، وعرّفه الجرجاني: (إعمال القلب في النظر في الأدلّة)(3). وفي الاصطلاح التفكّر يختلف عن التفكير، فالتفكير نشاط ذهني للوصول إلى نتيجة، أو إيجاد حلّ لمشكلة ما، بينما التفكّر أعمق بكثير من التفكير، فالتفكّر نشاط قلبي داخلي، يعمل بالتأمّل بالبصيرة للوصول إلى لبّ الشيء وجوهره، وحقيقته وأصله. وورد التفكّر في القرآن الكريم بمعانٍ عدّة، منها: 1- ضرب الأمثال: كقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الأعراف:176). 2- تأكيد دعوة الرسل والأنبياء: كقوله تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (الأنعام:50)، وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (الأعراف:184). 3- التفكّر في عظمة القرآن الكريم: كقوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون (الحشر:21) وقد تشترك أيضًا في معنى التفكّر في ضرب الأمثال، وكذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (النحل:44). 4- التفكّر في الآيات الأنفسية والآفاقية: المقصود بالآيات الأنفسية هي الآيات التي تتحدّث عن التفكّر في بناء جسم الإنسان، وتكوين أجزائه وأعضائه بنظام دقيق جدًا حيّر العقول والألباب، أمّا الآيات الآفاقية فهي التي تتحدّث عن الكون وما فيه من آيات بديعة الصنع، كالشمس والقمر والنجوم والنباتات والحيوانات، وكلّ ما يحيط بنا من تلك الآيات الباهرة، كقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم:21)، وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (آل عمران:191ـ192). وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ نظائر التفكّر في القرآن الكريم عديدة، منها: النظر، والتذكّر، والتبصّر، والتدبّر، والتفقّه، والتعقّل، وجميعها تُستخدم في إعمال العقل والتمعّن في دبر الأمور، أي عواقبها ومن هنا جاءت لفظة (التدبّر)، والتأمّل في ظواهر الأمور يعنى النظر، أمّا بواطنها فتشمل جميع النظائر أعلاه باستثناء النظر. وبلحاظ ما تقدّم، تتبيّن عظمة البيان القرآني في أهمّية كلّ مفردة من مفرداته، واختيارها بدقّة متناهية من جميع النواحي، منها مفهوم التفكّر الذي يرتقي بالإنسان إلى مراتب أسمى من حيث التطوّر العقلي والفكري، ممّا ينعكس على واقع الأمة المتفكّرة التي تسير على هذا الاتجاه في التعمّق في ظواهر الأمور وبواطنها، وما يستتبع ذلك من زيادة الوعي وترسيخ الإيمان بالله تعالى، ولهذا كان التفكّر عبادة، مثلما جاء في الروايات الشريفة التي تصبّ في هذا المعنى، منها ما جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "ليست العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله (عزّ وجلّ)"(4). ............................... (1) لسان العرب: ج5، ص65. (2) مقاييس اللغة: ج4، ص446. (3) انظر التعريفات للجرجاني: ص 167. (4) بحار الأنوار: ج68، ص322.