بين الحَرمين

رجاء محمّد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 864

بين الحرمينِ أقف، أشدّ على القلب بضماد الحنين، أنظر ذات الشمال وذات اليمين، فأرى المآذن والقِباب تشقّ كلّ وهم وسراب، وتطلّ شامخة تهزأ بالضباب، أراها عين اليقين، فيخشع القلب وتدمع العين.. بين الحرمينِ حكاية قلبينِ اجتمعا على حبّ الله، فلم تفرّقهما سيوف العالم أجمع، شمس تشعّ ضياءً كاللجين، وقمرٌ يستمدّ منها النور المبين، ولا عجب إن كان لقب القمر ملازمًا لهذا القويّ الأمين.. بين الحرمينِ صمتٌ وكلام، وعشقٌ لم تنقصه الأيام، ولا تكرار القرون والأعوام، بل هو يزداد ويتألّق مع كلّ لحظةٍ تمرّ، وكلّ نصرٍ يتحقّق، عشقٌ لم يُلحَق ولم يُسبَق، فهو منبعث من روح ذاك العاشق الأصدق، الذي ربّته يدا أمير المؤمنين وعينا أمّ البنين (عليهما السلام)، حتى غدا بجوار سفينة النجاة هو الزورق، درب يسلكه محبّ الحسين (عليه السلام) إليه، ولا درب إلى الحسين (عليه السلام) سواه، فمنه تنطلق الآه، وإليه تنتهي مواكب الحنين.. وبين الحرمينِ أيضًا تحضرني حقيقة لا تُنكر، فمثل هذا البهاء المشحون بكلّ عناصر العطاء، لا يكون إلّا عن إرادةٍ إلهية محكمة بأن يقترن مصير سيّد الوفاء بأخيه سيّد الشهداء منذ الولادة حتى الشهادة.. وتنثال في الفكر تلك الحقائق الباهرة، يوم تألّق هلال شعبان ليزفّ لسيّد الوصيين ولادة ثاني السبطين، ولم يلبث إلّا يسيرًا من عمر الدهر، عشرين عامًا أو أكثر بقليل، حتى زفّ له نفس الهلال ولادة البطل المنتظَر، الذي أراده ناصرًا لولده الحسين (عليه السلام)، ومشعلًا ينير دروب التائهين؛ ليجدوا في ظلمات البرّ والبحر طريقًا يسلكونه نحو الحقّ، وإن تشابهت الدروب وضاقت المسالك بالسائرين.. إيهٍ شعبان، أيّ شهرٍ أنتَ! درّة الشهور وزهرتها، وأريجها الفوّاح، لم تحتضن بين أيامك ولياليك إلّا الأفراح، بعدما أنهكت الدنيا بقيّة إخوتكَ من شهور العام بالأتراح، فغدوتَ لنا عيدًا لأولنا وآخرنا، وكيف لا تكون ومن جنباتكَ تتضوّع أنوار أبطال كربلاء، بعدما جمعْتَهم تحت كسائكَ المحفوف بالسناء، وغدوتَ لولادة الأبطال عرينًا، ولم ترضَ حتى ترضينا، وإذا بنور الإمام الثاني عشر يحتلّ قلبكَ، ويشعشع فيشمل كلّ أيامنا وليالينا.. إيهٍ شعبان، قمْ بنا نقف بين الحرمين؛ لننظر ذات الشمال وذات اليمين من جديد، فبصرنا اليوم حديد.. قمْ بنا لنشهد على كرامة الدنيا والآخرة، فهذا الإنسان الذي حاز الجمال، وخير الخصال، ونال الكمال، قد بذل غاية المجهود في نصرة إمامه، وشهد له بذلك الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، وبلغت مرتبته عند سيّد الشهداء أن يفدّيه بنفسه، حتى إذا وقف على مشارف الشهادة، لم يتردّد في الإقدام نحو حقيقة السعادة، فآثر أخاه بنفسه حتى الرمق الأخير، وكانت تلك عنده هي العادة، وأخذ لغده من أمسه، فاستحقّ أن يكرمه الله بما لم يكرم به أحدًا، أن يشارك سيّد الشهداء في مجده، وأن يكون له موئلٌ يطلّ عليه أبدًا، فإذا الحسين والعبّاس (عليهما السلام) بحرٌ ونهر، شمس وقمر، وتتعانق القباب تناجي القباب، ويلتفت القلب ليأخذ بالأسباب، هذا مغتسل باردٌ وشراب، (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(1)، فمَن وقف بين الحرمين يناجي الحبيبين، شاركهما حبّه الأبديّ، وتشارك حبّهما الملكوتيّ، وخاض في العباب، مرج البحرين يلتقيان. .................. (1) البقرة:137.