رياض الزهراء العدد 203 شخصيات ملهمة
مليكة الدنيا والآخرة: السيدة نرجس (عليها السلام)
في أعماق الزمن الغابر مدت يد الغيب أناملها لتزيل عبرات متقاطرة حجب الدمع طرفيها عن النظر، رحلةٌ شاقة قطعتها (مليكة) من قصور الروم إلى قبضة الأسر باحثةً عن روح الله في خلقه، متخفيةً ومتنكرة في ملابس الخدم، ومسددة غيبيًا، ألهمت من الله تعالى (المسير) و(المصير)، ملقيةً بنفسها في وثاق الأسر، تسير تارةً تحت أشعة الشمس الحارقة وحرارتها اللافحة، وتارةً تحت رحمة الرياح والأمطار والعواصف، وجهًا لوجه مع مخاطر كثيرة، من قطاع الطريق، والجوع والعطش، وغيرها، ومن أهوال الطريق إلى معركة سوق النخاسة، وقفت وهي ترتدي حريرتين صفيقتين تمتنع من السفور، وترفض بشدة أنْ يشتريها أحد، حتى طرق الفرج أبواب روحها حينما قدم بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري بأمر من مولانا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى عمر بن يزيد النخاس وقال له: إن معي ملصقًا لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيت، فأنا وكيله في ابتياعها منك، فلما نظرتْ في الكتاب بكت بكاءً شديدًا، واستبشرت، وأخذت كتاب مولاها تلثمه وتضعه على خدها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقال بشر تعجبًا منها: أتلثمين كتابًا ولا تعرفين صاحبه؟ فقالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء (عليهم السلام)، أعرْني سمعك، وفرغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا ابن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح (عليه السلام) (شمعون)، أنبئك العجب العجيب: إن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، فجمع في قصره من نسل الحواريين والرهبان، وأبرز من بهو ملكه عرشًا، فلما صعد ابن أخيه، تساقطت الصلبان وخر الصاعد من العرش مغشيًا عليه، فتغيرت ألوان الأساقفة، فقال كبيرهم: أيها الملك، اعفنا من ملاقاة هذه النحوس، فغضب جدي من ذلك، وقال: أقيموا هذه الأعمدة وأحضروا أخا هذا العاثر، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول، وتفرق الناس، وقام جدي قيصر مغتمًا، ودخل قصره وأرخيت الستور، فرأيت في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي، ونصبوا فيه منبرًا يباري السماء علوًا، فدخل عليهم محمد (صلى الله عليه وآله) مع فتيةٍ وعدةٍ من بنيه، فيقوم إليه المسيح (عليه السلام) فيعتنقه، فيقول (صلى الله عليه وآله): يا روح الله، إني جئتك خاطبًا من وصيك (شمعون) فتاته (مليكة) لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمد (عليه السلام) صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح (عليه السلام) إلى (شمعون)، فقال له: قد أتاك الشرف، فصلْ رحمك برحم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: قد فعلت، وشهد المسيح (عليه السلام)، وشهد أبناء محمد (صلوات الله عليهم) والحواريون(1). فلما استيقظت من نومي أشفقت أنْ أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، وضرب صدري بمحبة أبي محمد (عليه السلام) حتى امتنعت من الطعام والشراب وضعفت نفسي، ودق شخصي، ومرضت مرة مرضًا شديدًا، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا وأحضره جدي وسأله عن دوائي، فلما برح به اليأس، قال: يا قرة عيني، فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدقت عليهم، ومننتهم بالخلاص، لرجوت أن يهب المسيح وأمه (عليهما السلام) لي عافيةً وشفاءً، فلما فعل ذلك جدي، تجلدت في إظهار الصحة في بدني، وتناولت يسيرًا من الطعام، فسر بذلك جدي، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم، ورأيت أيضًا بعد أربع ليالٍ كأن سيدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران، وألف وصيفة من وصائف الجنان، فتقول لي مريم: هذه سيدة نساء العالمين، وأم زوجك أبي محمد (عليه السلام)(2). ومن هذا المنام تسلحت السيدة نرجس (عليها السلام) بالشجاعة، ووصل بها الحال لأن تكون واقفة أمام بشر بن سليمان النخاس، ثم وصلت (مليكة) إلى دار الإمام (عليه السلام)، واستنشقت نسيم تربته المغمورة بالرحمة، المحفوفة بحدائق الغفران، لتكون حلقة الوصل الخالدة بين أنبياء الله (عز وجل)، فسبحان من جعل الأسر طريقًا للعروج، والعسر مقدمة لليسر، والعذاب طليعة الثواب، والعطاء وليد العناء، فلابد من طهارة النفس وسمو الروح لتكون في درجاتٍ عليا تحتويها العناية الربانية؛ لذلك كان اصطفاء الله (عز وجل) لتلك المرأة لتكون أمًا للإمام المنتظر (عجل الله فرجه)، والمؤتمنة عليه، والكفيلة به، فهي السيدة الجليلة الطاهرة، والوعاء المبارك الذي حمل خاتم الأوصياء، فلنتخذ من سيرتها قدوة، في همتها، وجهادها، وأفعالها الحميدة، وأخلاقها الزاكية حتى وصفت بخيرة الإماء في كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) محدثًا عن الإمام المهدي (عجل الله فرجه): "يا بن خيرة الإماء، متى تنتظر؟ أبشرْ بنصرٍ قريب من ربٍ رحيم"(3). .............................. (1) السيدة نرجس مدرسة الأجيال: ص56. (2) سفرة مليكة الدنيا والآخرة: السيدة نرجس آل محمد: ص33. (3) المصدر نفسه: ص6.