علي الأكبر (عليه السلام): النسب الشامخ والحسن الباذخ

خديجة أحمد الصحّاف/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 252

ربما لا يوجد في المصادر التاريخية الكثير عن حياة علي الأكبر (عليه السلام)، لكن القليل الذي وصلنا يكفي ليعكس لنا صورة رائعة لذلك الشاب الرسالي؛ فرب سطور قليلة أغنت عن مئات الصفحات، ورب قصيدة عصماء اختزلت في بيانها ما يغني عن المجلدات! بدأت حياة شبل الحسين (عليه السلام) في كنف المعصومين، جده علي وعمه الحسن وأبيه الحسين (عليهم السلام)، وانتهت في ساحة الشهادة بين يدي إمام زمانه، وهذا المقدار يكفي ليجعل الأقلام تجف، والبيان يعجز، والتأريخ يطأطأ رأسه هيبةً وإجلالًا، كيف لا وما بين ساعة الولادة وساعة الشهادة حياة زاخرة بالمجد، والنبل، والمكارم بكافة ألوانها؟! وقد وصفه أبوه الإمام الحسين (عليه السلام) :"اللهم اشهد، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقًا وخلقًا ومنطقًا برسولك صلى الله عليه وآله وسلم..."(1)، فهذا الوصف كافٍ ليحير العقول، ويقطع كل قول، ولو لم يكن علي الأكبر حقًا شبيهًا برسول الله (صلى الله عليه وآله) لما صدر عن الإمام الحسين (عليه السلام) هذا البيان؛ فربما ورث بعض أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله) بعضًا من صفاته، لكن لم يرو لنا التأريخ أن أحدهم كان كالمرآة الصافية التي عكست شمائله وسماته كلها ليكون نسخة مصغرة منه مثلما كان علي الأكبر (عليه السلام)، ومما وصف به رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه كان وجهه أقمر، وجبينه أزهر، كأنه البدر إذا أبدر، ولفظه أحلى من السكر، وريحه أذكى من المسك الأذفر، إذا اجتاز طريقًا يسبقه عطره(2)، وكذلك كان علي الأكبر (عليه السلام)؛ لذلك كان الناس في المدينة المنورة إذا برح بهم الشوق لرؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، نظروا إلى علي الأكبر (عليه السلام)؛ لتعود بهم الذاكرة إلى أيام نبيهم، وما كان يضفيه وجوده المقدس على حياتهم من ثراء وسكينة وقداسة، وكان إذا مر في طريق ما، أشرف الناس من سطوح منازلهم ليكحلوا أعينهم من رؤية محياه البهي، ولم يكن علي الأكبر (عليه السلام) جميلًا صبيح المنظر فحسب، بل كان جوادًا سخيا، حيث تذكر الروايات الشريفة أنه كان يعمد في الليالي المظلمة الباردة إلى إشعال النار فوق سطح داره ليهتدي إلى مائدة جوده المسكين، والجائع، ومن انقطع به الطريق، وهذه النار هي التي يطلق عليها العرب (نار القرى)(3). وأما شجاعته، ورباطة جأشه، وثباته في سبيل الحق، فقد ورثها عن آبائه (عليهم السلام)، كيف لا وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لو ولد أبو طالب الناس كلهم لكانوا شجعانًا"(4)، فكان قتاله الباسل في ملحمة الطف منقبة أخرى من مناقبه، وعندما حمل على الجيش الأموي كالليث الغضبان، أعاد إلى ذاكرة القوم حملات جده أمير المؤمنين (عليه السلام). لقد سما علي الأكبر (عليه السلام) إلى قمة الارتقاء والرفعة، وبلغ الكمال والقداسة، فكان تاليًا لدرجة المعصومين (عليهم السلام) في القرب من الله تعالى، كعمته زينب وعمه العباس (عليهما السلام)، وهذا يتضح من قول الإمام الحسين (عليه السلام) عند استشهاده: "بعدًا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك وأبوك"(5)، فمن الواضح أن الجرأة على الله تعالى لا تتحقق إلا بقتل المعصوم أو من يليه، ومن عظمة مقام علي الأكبر (عليه السلام) أنه أفرد عن بقية الشهداء، ودفن مع أبيه الحسين (عليه السلام)، وله زيارة مستقلة عن زيارة بقية أنصار الإمام الحسين (عليهم السلام). لقد كان علي الأكبر (عليه السلام) مجمعًا للمكارم كلها، مما جعل الإمام الحسين (عليه السلام) مولعًا به، فإذا رآه شعر بالبهجة وغمره السرور، ومع كل هذا الحب والاعتزاز من الوالد لشبله العظيم، إلا أنه كان سخيًا به في ساحات العز والفداء، فكان أول القرابين التي قدمها على مذبح الحب الإلهي، وكان مشهد الوداع بينهما مشهدًا يذيب الصخر، ويهد الجبال الرواسي، إذ تقول الروايات إن عليا الأكبر (عليه السلام) عند استشهاده بعث بسلامه إلى أبيه الحسين (عليه السلام) وقال عبارة يقف عندها المتأمل طويلًا: "هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربةً لا أظمأ بعدها أبدًا"(6)، فما سر هذه الشربة التي لا يظمأ شاربها بعدها أبدًا؟ إنها الدرجة التي تمثل أقصى مراتب الوصال والقرب من الله تعالى، مرحلة منتهى الآمال، وغاية الاكتفاء، حيث تكون النفس راضية مرضية في دار الكرامة الأبدية. هذه السطور القليلة في سيرة سليل خاتم الرسل كافية لأن يتخذه شبابنا قدوةً وأسوةً، ومنارًا لمن شاء أن يستقيم على طريق الحق. ........................... (1) اللهوف في قتلى الطفوف: ص67. (2) بحار الأنوار: ج16، ص60. (3) خزانة الأدب: ج7، ص135. (4) شرح نهج البلاغة: ج10، ص78. (5) الإرشاد: ج2، ص108. (6) بحار الأنوار: ج45، ص44.