(وبشر الصابرين)(1)
كثيرًا ما كنت أسمع عبارات تصف المولى أبا الفضل العباس (عليه السلام) وغيرته عندما كانت تصطحبني أمي لزيارة مرقده الشريف، لاسيما عند اشتداد المصاعب علينا، فكانت مخيلة الطفولة ترسم صورًا عن شخصيته وسرعة كراماته، وعندما كنت أسألها عن معنى تلك العبارات، كانت تجيبني ببساطة: إنه يستجيب لنداء الملهوفين مسرعًا، ويندفع للنصرة والإغاثة، كخروجه مسرعًا ليروي ظمأ عيال مولانا الحسين (عليه السلام) ويلبي نداءهم. فكنت أسألها: أماه، كيف تحمل الإمام الحسين (عليه السلام) فراقه ورؤيته صريعًا على رمضاء كربلاء؟ فكانت تجيبني: إن الإمام الحسين (عليه السلام) أبو الصبر، حتى تعجبت من صبره ملائكة السماء(2). بقي كلامها يرافقني طوال حياتي، حتى بت أستحضره في كل المواقف الصعبة التي مرت وتمر علي، وبقيت صورة الصبر الذي تجسد في مواقف الإمام الحسين (عليه السلام) جميعها الصورة الأكثر حضورًا في تفاصيل حياتي، فكيف لا وهو قدوتنا وإمامنا؛ لذلك حري ببعض الوافدين إلى زيارته، المتحملين لمشاق السفر وصعوباته، أو الأصدقاء في ما بينهم، أو أفراد الأسرة الواحدة، أن لا تستفزهم مواقف غير ذات بال، كالتدافع بسبب الزحام أو تعليق غير مقصود، فتثير غضبهم وانفعالهم لافتعال مشاجرة أو مشادة كلامية، فيضيع أجر الزيارة وثوابها بسبب التسرع، وكذلك من الممكن أن تفقد الأسرة تماسكها حين يكون التسرع في الحكم بدلًا من الركون إلى الحلم والصبر في حل النزاعات والخلافات. وعندما نستذكر تلك المواقف التي تجلت في سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة الطف، لا نستغرب أن أول حديث رواه عن جده (صلوات الله وسلامه عليه) يعطينا الدرس الأول والأقوى في الصبر، حيث قال (سلام الله عليه): "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة وإن قدم عهدها، فيحدث لها استرجاعًا، إلا أحدث الله له عند ذلك وأعطاه ثواب ما وعده عليها يوم أصيب بها"(1)، فكان الإمام الحسين (عليه السلام) الإمام الصابر وهو يفقد أولاده وأخوته وأصحابه واحدًا تلو الآخر، ويحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى، وربما أصعب موقف مر عليه هو عندما ذبح ابنه الرضيع العطشان، وهو يرفرف كطير مذبوح بين يديه، وهو رضيع غض، لم يقو على رفع رأسه بسبب عطشه، بل مد يده عندما شعر بحرارة الدم ظانًا أنه ماءٌ، فلم يجزع الإمام الأب، بل رمى بدمه نحو السماء بعد أن امتلأت كفه ليكون بعين الله، وكان همه الوحيد هو ماذا يقول لأمه وهي تنتظر عودته مرتويًا هادئًا، بل كان لجوؤه إلى الحوراء زينب (سلام الله عليها)، الصابرة المحتسبة، بدلًا من الأم المفجوعة. هذا الموقف يدعونا لنتساءل: كم من الآباء والأمهات يمتلكون الصبر عند الابتلاءات، كمرض الأبناء، أو موتهم، أو إعاقاتهم؟ كم منهم يتحلى بالإيمان واليقين الثابت، ويتصرف برباطة جأش أمام أبنائه؟ بل كم منا لا يفزع، أو يجزع، أو ينهار أمام مصائب صارت شبه طبيعية؛ لتكرار حدوثها مع الكثيرين في زمن الابتلاءات هذا؟ ألا يدعونا ذلك إلى الاقتداء بإمامنا وشفيعنا؟! ...................... (1) سورة البقرة:155. (2) ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام): ص 8.