الفطرة جوهرَة الوجود الإنساني
ماذا نعني بالفطرة، وهل معرفة الله تعالى فطرية أو مكتسبة؟ علينا قبل ذلك أن نعرف ما معنى الفطرة، وما المقصود بالمعرفة الفطرية. (الفطرة): هي الصفات التي يتّصف بها كلّ مولود في أصل خلقته، وعندما نقول كلّ مخلوق، فهذا يعني أنّها عامّة وشاملة، ولا يوجد فيها استثناء. أمّا (المعرفة الفطرية): فهي تلك الخصائص والصفات غير المكتسبة، بل الموجودة مع الإنسان في جبلّته وأصل خلقته، وبحسب العقيدة الإسلامية، فإنّ معرفة الله تعالى فطرية وغير مكتسبة، فالإنسان خُلق بنقائه الروحي وفطرته السليمة مريدًا ومحتاجًا إلى الله (عزّ وجلّ)، منجذبًا إليه مثلما تجذب الأرض الأجسام، فالبحث عن الله تعالى، وعبادته، والسير إليه، حسّ أصيل في طبيعة البشر، وكلّ إنسان يدرك بوجدانه ذلك الميل القلبي في داخله الذي يدفعه للبحث عن معبوده، والتوجّه إليه، بشرط أن لا يوجد ما يحجب ذلك الشعور الأصيل من حجب الغفلة المادّية، أو ما يميته بسبب ما يصيب الإنسان من أمراض روحية تصرفه عن عبادة الله تعالى، وفي مقابل هذه الحقيقة، هناك مَن ينكر الفطرة، كالفيلسوف الإنكليزي (John Locke) الذي يقول: (العقل عند الولادة صفحة بيضاء، تنتظر أن تكتبها التجربة)، حيث يدّعي هذا الفيلسوف أنّه لا توجد معارف فطرية، فالإنسان يُولد كالصفحة البيضاء، والتجربة هي التي تنقش عليها المعارف عن طريق الحسّ، لكن في الحقيقة أنّ الإحساس بالله تعالى إحساس فطريّ غير مكتسب، ويشعر به كلّ وجدان نقيّ، ففي أعماق كلّ إنسان إحساس بحاجته وميله إلى الكمال المطلق، والجمال المطلق، والقدرة المطلقة. وقد أذعن الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس للعقيدة الإسلامية بشأن أصالة الفطرة، والجوانب المعنوية عند الإنسان، وأنّ هناك بُعدًا أصيلًا في الإنسان، ألا وهو البُعد الديني أو الربّاني، فالعالم الفرنسي (Alexis Carrel) كان يقول: (في الحقيقة أنّ ما نراه هو أنّ الإحساس العرفاني حركة تنبع من أعماق فطرتنا، وهو غريزة أصلية أيضًا، والإنسان كما يحتاج إلى الماء والأوكسجين، فهو يحتاج إلى الله أيضًا). والقرآن الكريم يؤكّد على أصالة هذا الإحساس لدى الإنسان، كقوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:30). ولكنّ الفطرة، تلك الجوهرة الثمينة التي تشعّ في أعماق الإنسان وتدلّه على خالقه، يُمكن أن تُحجب بالحُجُب المختلفة، كحبّ الدنيا، واتّباع الهوى، وارتكاب المعاصي، فتفقد بذلك قدرتها على التأثير في سلوك الفرد وأفعاله، لكن عندما يمرّ الإنسان بشدّة، بخاصّة إذا بلغت ذروتها، فإنّ الحُجُب ستُرتفع عن القلب، ويشرق نور الفطرة مرّة أخرى، وتعود الجوهرة إلى بريقها النقي اللامع، وتأثيرها الفعّال، وقد أشار القرآن الكريم كثيرًا إلى هذه النقطة، واستدلّ بها في مجال المعرفة الفطرية، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ (الروم:33)، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28)، حيث يبيّن القرآن الكريم أنّه لا توجد أيّ قوّة قادرة على بعث الطمأنينة في القلوب سوى قدرة الله تعالى، والسبب هو الميل الباطني للإنسان بفطرته إليه سبحانه. وكذلك روايات أهل البيت (عليهم السلام) أكّدت على توجّه الإنسان إلى الله تعالى عند الشدائد والملمّات، فقد ورُوي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنّه قال: "الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ مَن دونه، وتُقطّع الأسباب من جميع مَن سواه"(1)، ومَن ينكر الدليل القرآني والروائي، فلا يمكنه أن ينكر ملايين التجارب الشخصية الوجدانية التي مرّ ويمرّ بها البشر في توجّههم الفطري إلى الله تعالى عند الأزمات والشدائد، إضافة إلى دوام الاعتقاد الديني على امتداد تأريخ البشرية، فلا نجد حقبة زمنية خلت من الإيمان والاعتقاد بوجود الله تعالى مهما بذل الطغاة والمستكبرون من جهود لمحو الدين وآثاره من أعماق المجتمعات البشرية. نعم، إنّ الدين ومعرفة الخالق لهما وجود أصيل في فطرة الإنسان، أمّا الانحرافات فأمر عارض؛ لذا بعث الله الأنبياء لإزالة الأمور العارضة، وإعطاء الفطرة مجالًا لتنمو وتزهر، ولتذكير الناس بنِعم الله المنسيّة، أهمّها فطرة التوحيد مثلما ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام): "...فبعث فيهم رُسُله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول..."(2). ............................... (1) بحار الأنوار: ج3، ص41. (2) المصدر السابق: ج١١، ص٦٠.