الصوم والصيام في القرآن الكريمِ

عبير عباس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 442

إنّ دقّة التعبير القرآني في اختيار المفردات واستعمالها في موارد معيّنة تفوق الوصف، وبالنسبة إلى الألفاظ التي تبدو مترادفة، إلّا أنّ استخدامها في القرآن الكريم يتّخذ منحىً آخر هو من أهمّ مميّزاته، ووجه من وجوه إعجازه البلاغي في استعمال المشتركات المعنوية، كالفرق بين استعمال كلمتيْ (الريح) و(الرياح)، أو كلمتيْ (جاء) و(أتى)، أو (وصّى) و(أوصى)، ومن هذه المشتركات المعنوية (الصَوْم) و(الصِيام)، وهما مصدران للفعل (صَامَ)، وبحسب القاعدة البلاغية القائلة بأنّ كلّ زيادة في المبنى هي في الحقيقة زيادة في المعنى، يتبيّن الفرق بين (الصَوْم) و(الصِيام)، وذلك بأنّ (الصِيام) هو الكفّ عن المفطرات مع النيّة، ويدلّ عليه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، أمّا (الصَوْم)، فهو الكفّ عن المفطرات والكلام مثلما كان في الشرائع السابقة، وإليه يشير قوله تعالى مخاطبًا مريم (عليها السلام): (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (مريم:26)، حيث رتّب عدم التكلّم على نذر الصوم(1). فمفردة (الصَوْم) وردت مرّة واحدة في القرآن الكريم وذلك في سورة (مريم) المذكورة في الآية السابقة، ويُقصد به الصمت والإمساك عن الكلام، وهو ما أكّده الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: "إنّما للصوم شرط يحتاج أن يُحفظ حتى يتمّ الصوم، وهو الصمت الداخل، أما تسمع قول مريم بنت عمران، (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) يعنى صمتًا"(2)، بينما وردت مفردة (الصيام) في القرآن الكريم في (7) مواضع، اثنين منها بشأن فريضة الصيام الواجب، وذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، وفي قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة:187). وإذا دقّقنا جيّدًا في الآيتين السابقتين اللتين ترتبطان بصيام شهر رمضان المبارك، فسنجد أنّهما تنتهيان بـ(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) و(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فالغرض إذن من الصيام هو تحصيل التقوى في الأمور المادّية والمعنوية على السواء، فالأمور المادّية تشمل الالتزام بضوابط الصيام وأحكامه، كالابتعاد عن المفطرات كالأكل، والشرب، والنكاح، وغيرها، أمّا بالنسبة إلى الأمور المعنوية، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا وتكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا، ولا تسابّوا، ولا تشاتموا، ولا تفاتروا، ولا تجادلوا، ولا تتأدّوا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تضاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة، والزموا الصمت، والسكوت، والحلم، والصبر، والصدق، ومجانبة أهل الشرّ، واجتنبوا قول الزور، والكذب، والفري، والخصومة، وظنّ السوء، والغيبة والنميمة..."(3)، فعلى قول الإمام الصادق (عليه السلام) يكون معنى الصَوْم الكفّ الداخل، وعليه، أنّ صيغة (الصِيام) وعاء لغوي كبير، وصورة قرآنية تصوّر جهاد النفس في صيامها، وجهادها مع الضروريات ومقوّمات الحياة من الطعام والشراب، وجهاد النفس مع الملذّات والشهوات، ومع المحرّمات والممنوعات...(4). وممّا تقدّم نلاحظ دقّة التعبير القرآني في استخدام مفردتيْ (الصَوْم) و(الصِيام)، ولو تأمّلنا قليلًا في كلمة (الصَوْم) لوجدناها تماثل كلمة (الصَمْت) وزنًا، وتناسبها تمامًا من حيث معنى إطباق الشفاه، والإمساك عن الكلام، بينما مفردة (الصِيام) تفرق عن كلمة (الصَوْم) من حيث الوزن، فحرفا (الياء) و(الألف) يمدّان كلمة (الصِيام) أطول من (الصَوْم)، وإيقاعيًا هو أمر يتناسب تمامًا مع طول مدّة الصِيام الواقعة من الفجر حتى الغروب، إضافة إلى متعلّقات الصِيام من أحكام والتزامات مادّية ومعنوية، فسبحان مَن أنزل هذا الكتاب العظيم الذي لا تنقضي عجائبه. ................. (1) الفروق اللغوية: ص325. (2) وسائل الشيعة: ج10، ص166. (3) بحار الأنوار: ج93، ص292. (4) التصوير القرآني للقِيم الخُلُقية والتشريعية: ص166.