ربيع المؤمنين

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 210

هو شهر الله، لا شهر يشبهه، مثلما لا عمر يكفي ليحصد جناه.. يهلّ هلاله، فتهلّ معه البركات والرحمات، وتنطلق من القلوب الخفقات، ومن الألسنة الصلوات.. شهرٌ دُعي فيه المؤمنون إلى ضيافة ربّ العزّة، فإذا هم أكرم ضيوفٍ لأكرم مضيف، وإذا ضيافتهم ثمار الطاعة، وشهد المعرفة التي يستحقّها مَن سعى لها سعيها، وزكّى نفسه فهذّب طبعها، فإذا هو يطهّر نفسه من المعاصي والآفات، ويغتسل من أدران الذنوب بالصوم عن الطعام والشراب والملذّات، ليدرّب النفس على الصبر والطاعات، ويكسر عنفوانها بالخضوع لربّ السماوات، فيكرّس نفسه للعبودية الحقّة بالتحرّر من سيطرة الهوى والشهوات. كلّها خصالٌ نعرفها في هذا الشهر العظيم، خبرناها بأنفسنا، ولاحظنا أثرها في طبائعنا حين ندخل الشهر متلهّفين إلى هِباته، ونخرج منه متأسّفين على ما فاتنا من رحماته إن كنّا قد قصّرنا في بعض أعماله، وواجباته، ومستحبّاته، تمامًا مثلما يخرج صاحب الجنّة من نعيمها الباقي، إلى عالم الدنيا الزائل، وهو يقلّب يديه على ما فاته من خيرها وجناها. ولكنّ الناظر المتفحّص لأيام هذا الشهر الفضيل من نافذة التاريخ، يضيف إلى إكباره لهذا الشهر وإجلاله له إكبارًا وإجلالًا، فقد زخرت أيامه ولياليه بما لا يُحصى من الفضائل، لا في مستحبّاته المثقلة بالجَنى فحسب، بل في مناسباته العظيمة التي تشعّ بالأنوار القدسية، ما بين سرورٍ بولادة السبط الأكبر (عليه السلام) مع اكتمال البدر، وحزنٍ لاستشهاد سيّد الأوصياء حيدر (عليه السلام) في ثاني ليالي (القدر)، وما بين اعتزازٍ بنزول الوحي على خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) في ليلة (القدر الكبرى)، وافتخارٍ بذكرى انتصار الإسلام على الشرك في معركة (بدرٍ الكبرى)، ومع أنّ عام الحزن يضجّ بآهاته ما بين جنبات العشر الأولى منه، فيمتلئ قلب نبيّ الرحمة بالحسرة، وعينه بالعَبرة من وفاة كفيله أبي طالبٍ (عليه السلام)، وارتحال صفيّته الجليلة خديجة الكبرى (عليها السلام) التي نصرته بالقلب، واليد، والمال، واللسان، وكانت أمًّا لأولاده دون غيرها من النساء، كلّ ذلك يكفي ليتوّج شهر رمضان مَلِكًا على الشهور، فهو صاحب المواهب الجزيلة، والفضائل الجليلة، يشعشع بين كنفاته فجر النبوّة بصوت (أمين الوحي)، يهيب بصفوة الخلق أن يقرأ ما نزل من وحي الإله مناديًا إياه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق:1)، مثلما ينطلق صوته ليعلن يوم (بدرٍ) ما بين السماء والأرض فضل عليٍّ (عليه السلام) بقوله: "لا فتى إلّا عليّ، ولا سيف إلّا ذو الفقار"(1)، ثم ينطلق مرّةً أخرى بعد نيّفٍ وأربعين عامًا ليعلن حداد الكائنات عليه، فيقول: "تهدّمت والله أركان الهدى، وانفصمت والله العروة الوثقى..."(2). هو شهر الله، وشهر رسوله، وشهر أوليائه... ما اجتمعت في شهرٍ فضائل وكمالات كتلك، والتهاليل والآهات، والأفراح والأحزان، حتى غدا مختصرًا لحياة الإنسان، يجد المؤمن فيه نفسه، ويرتقي في مراتب قدسه، ويكتسب بفضله خير الدنيا والآخرة، وتنكشف له من بين ثناياه عطايا الرحمن الزاخرة، فيحمد ويشكر، ويرثي ويصبر، ويقرأ مع سورة (العلق) سورة (القدر)، ويسعد بتلاوة الدعاء، وأداء الصلاة، والذكر، فقد فتح الرحمن أبواب السماء لعباده، وأدخلهم نعيم الجنان قبل أن ينتقلوا إلى جواره. فسلامٌ على شهر الله المذخور بآيات الله، وسلامٌ على مَن جعله الله من العاملين فيه بأيامه ولياليه وأسحاره، الفائزين بخيراته، والقاطفين لثماره، ورحمة الله وبركاته. ........................ (1) بحار الأنوار: ج42، ص64. (2) المصدر نفسه: ج42، ص282.