رياض الزهراء العدد 204 شخصيات ملهمة
ينبوع الكوثر: السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام)
أطلت ببساطتها المتأنقة وحشمتها المتمدنة، بدت كأن الحياة اختارتها لتحتفي برفقتها في بيت من بيوتات قريش الشريفة، عالية البناء، فسيحة الجنبات، ذات سلطان ونعمة، إنها دار (خويلد بن أسد)، منها برزت فتاة جميلة، ذكية، فصيحة اللسان، طيبة القلب، يحبها من يراها ويتعلق بها، حتى جواريها قد اتفقن على هذا الحب؛ لعطفها وحنانها، وما تمتاز به من الصفات الطيبة، فكن يتنافسن على إرضائها، وتشعر كل واحدة منهن بأن كلام سيدتها خديجة نغمة في أذنيها، هي امرأة اتصفت بالحزم، والعقل، والأدب الجم؛ لذلك تبوأت مكانة رفيعة في قومها، وشخصيتها الفريدة جعلتها تتمتع بهمة عالية، ونفس لا تحب إلا أن تنتقل من نجاح إلى آخر، حيث أطلت برفعة على عالم التجارة، واكتسبت شهرة عالية، ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة، منها: حسن انتقائها للرجال الذين يقومون على أمر هذه التجارة، و كانت حريصة على إعطاء من يعمل لحسابها من المال ما يكفيه حتى يغنيه عن النظر أو التلاعب في أسعار البيع أو الشراء، وتسند إلى كل رجل من الأعمال ما يناسبه، فلا تجعل أحدهم في منزلة لا يستطيع العمل فيها، ولا تجعل آخر في منزلة أقل فيشعر بالظلم ويهمل التجارة، وهكذا ينبغي دائمًا أن يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب إذا أردنا لأمر ما أن يتم على أكمل وجه، حتى شاء الله للطاهرة أن تلتقي بنور الكون وخاتم الرسل، حيث طرقت مسامعها أخبار عن رجل ما لم تسمعه عن إنسان من قبل، بلغها صدق حديثه في كل الأمور، كبيرها وصغيرها، رجل تحدثت مكة كلها عن صدقه، وعظم أمانته، وکرم أخلاقه، فبعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرًا إلى الشام، وقالت: (إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك)(1)، ومن هنا كانت اللحظات الأولى لبداية سيرتها مع سيد الخلق، وهي ذاتها اللحظات التي قدر لها الله (عز وجل) أن يكون هو النور الذي تشاركه مالها، ونفسها، وحياتها، حيث إنها فيما مضى خطبها رجال من قريش بذلوا لها الأموال، لكن رفضها إياهم بسبب عدم توافر الصفات الخيرة، والسجايا الطيبة والنفس الكريمة فيهم؛ لأن أي امرأة تتوافر فيها صفات كصفات السيدة خديجة (عليها السلام) من النسب الرفيع، والمال الكثير، مع ما لها من الجمال البالغ، لا توافق على أحد ممن تقدموا لخطبتها؛ لأن أمور كهذه غالبًا ما كانت هي الدافع الكبير لكل رجل وامرأة في الزواج في ذلك الوقت أو غيره، والسيدة خديجة (عليها السلام) لم يكن عندها دافع يدفعها إلى الزواج سوى البحث عن الفضيلة بأسمى درجاتها، وهذا ما لا يمكن توافره في أحد باستثناء شخصية النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي سرى ذكره بالمحاسن، وعلا خبره بالفضائل في مكة حتى عرف بـ(الصادق الأمين) قبل أن يبعث بالنبوة، فضلًا عما ظهر منه من الكرامات التي طأطأت لها رؤوس الأشراف، فكان هذا ما تبحث عنه سيدة قريش؛ لذلك كان جوابها حين تقدم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى خطبتها: (يا عماه، إنك وإنْ كنت أولى بنفسي مني في الشهود، فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي، والمهر علي في مالي، فامر عمك فلينحر ناقة، فليولم بها وادخل على أهلك، قال أبو طالب: أشهدوا عليها بقبولها محمدًا، وضمانها المهر في مالها)(2). ومما لا شك فيه أن الأخلاق تجمع المتآلفين، وتفرق بين المتناقضين، وقد جمعت الأخلاق الكريمة بين الأمين محمد (صلى الله عليه وآله) والطاهرة خديجة (عليها السلام)؛ لتكون أعظم امرأة عرفها التاريخ قامت بمهمتها خير قيام، فرعت حق الخالق سبحانه وتعالى، واتبعته في كل ما أمر به على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله)، حيث تلقت ثقل التكليف الشرعي بكل طمأنينة، وثبات، وعزم، حتى أصبحت خير معين للرسول (صلى الله عليه وآله) في تلقي الأمر الإلهي منذ نزول جبرائيل (عليه السلام) بالوحي إلى يوم فارقت الدنيا، فحينما يكون الأمر متعلقًا بخير الأديان وخاتمها، فإن الأدوار التي يقوم بها أهل هذه الرسالة تكون متوازية مع حجم الرسالة، ولأن السيدة خديجة (عليها السلام) ممن اختارها الله لنصرة هذه الرسالة، فقد اجتهدت في أداء دورها الرسالي، حتى أصبحت قبسًا يستضاء به، ومصباحًا ينير لكل من أراد أن يسلك الطريق الواضح المعالم، وما أحوجنا إلى تلمس الطريق السوي تجاه ديننا ودعوتنا، فسيرتها هي النور الحقيقي الذي أوضح كيف أضاءت نفسها بالحق قبل أن تبحث عن نور يكملها، فمن لم يكن له نور في نفسه، فلن تسعفه أنوار الدنيا كلها. ........................................................ (1) خديجة بنت خويلد (عليها السلام): ص112.