عالم البرزح

رجاء علي البوهاني/كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 199

إنّ الإنسان في رحلته الوجودية يمرّ بعوالم عديدة، منها ما قد مرّ به قبل عالم الدنيا، كعالم العقول، وعالم المثال، وعالم الأجنّة، ومنها ما لم يصل إليه بعد، وبعد رحلته في تلك العوالم وصل إلى عالم الدنيا وهي ليست محطّته الأخيرة، بل إنّها مجرّد قنطرة للعبور والوصول إلى عالم الآخرة التي هي دار القرار، وما إن تطوى آخر صفحة من حياة الإنسان ويغادر الدنيا، وإذا به ينتقل بواسطة الموت إلى عالم آخر، ألا وهو عالم البرزخ، وهو أول العوالم بعد الدنيا، والبرزخ لغةً: الحاجز الفاصل بين شيئين مختلفين والمانع لاختلاطهما وامتزاجهما(1)، وهذا واضح وظاهر من قوله تعالى: ﴿مرج البحرين يلتقيان○ بينهما برزخٌ لّا يبغيان﴾ (الرحمن:19ـ20)، ومعنى البرزخ اصطلاحًا: عالم الموت الذي يفصل بين عالم الحياة الأولى وعالم البعث للحياة الثانية(2)، فحياة الإنسان في عالم البرزخ تبدأ منذ الموت وتستمرّ حتى قيام الساعة، والحياة فيه ليست من سنخ المادّة، بل هي من سنخ الوجود المجرّد البرزخي المثالي، وليس فيها خصائص المادّة كالوزن، واللون، والشكل، والاستعداد، وهو حائل بين الأموات والرجوع إلى الدنيا، يقول (عزّ وجلّ): ﴿حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون○ لعلّي أعمل صالحًا فيما تركت كلا إنّها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون﴾ (المؤمنون:99ـ100)، وفي عالم البرزخ إمّا أن يكون الإنسان منعّمًا وإمّا معذّبًا، كلٌّ بحسب عمله، وقد قال تعالى: ﴿ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون○ فرحين بما آتاهم اللّه من فضله ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم مّن خلفهم ألّا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾ (آل عمران: 169ـ170)، فالحياة المستمرّة والاستبشار بمن بقي من المؤمنين لا يتصوّر إلّا في عالم البرزخ، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "وأمّا الردّ على من أنكر الثواب والعقاب في الدنيا بعد الموت قبل القيامة بقول الله (عزّ وجلّ): يوم يأت لا تكلّم نفسٌ إلّا بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، يعني السموات والأرض قبل يوم القيامة، فاذا كانت القيامة بدّلت السماوات والأرض"(3). هل يوجد في عالم البرزخ ولدى البرزخيين تكامل ورشد أم لا؟ إنّ ظاهر بعض النصوص الدينية يثبت ترقّي مقامات البرزخيين بطرق مختلفة، كالاستفادة من الأعمال الدينوية السابقة، كالباقيات الصالحات، أو أعمال الآخرين وهداياهم، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مرّ عيسى بن مريم عليه السلام بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل، فإذا هو ليس يعذّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذّب، ثمّ مررت به العام فإذا هو ليس يعذّب! فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا روح الله، إنّه أدرك له ولدٌ صالح فأصلح طريقًا، وآوى يتيمًا، فغفرت له بما عمل ابنه"(4). إذا مات الإنسان، فلابدّ له من هذا الفاصل لأنّ بموته لا يبعث مباشرةً، بل البعث في يوم خاصّ يكون بعد نهاية العالم، وهذا الفاصل سيكون طويلًا بالنسبة إلى مجموعة من الناس، وقصيرًا بالنسبة إلى مجموعة أخرى، كلٌّ بحسب أعماله في عالم الدنيا. ................... (1) ويكيبيديا. (2) مرآة الأنوار: (ص64) (3) بحار الأنوار: ج6، ص218. (4) أجوبة المسائل الكلامية: ج5، ص110.