نعمة البلاء

رجاء محمّد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 1047

جاء عن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنّه قال: "لن تكونوا مؤمنين حتى تعدّوا البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، ذلك أنّ الصبر عند البلاء، أعظم من الغفلة عند الرخاء"(1). وقال أبوه إمام الصادقين (عليه السلام): "المصائب منح من الله، والفقر مخزون عند الله"(2). تصدمنا هذه الأحاديث بغرابة الفكرة، وعمق النظرة، وما ورائيّة العبرة، فالبلاء مكروه عند بني البشر، توارثوا كرهه جيلًا بعد جيل، والإنسان مفطور على حبّ السلامة، والرغبة في الرفاه، يرى دعة العيش من أعاظم نعم الله تعالى. ولكن فلسفة البلاء التي وافانا بها أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم وسيرتهم الشريفة، تجعلنا نتوقّف مليًّا، ونعيد النظر في هذا المعتقد الموروث الذي ينسجم مع أهواء الإنسان وميوله، ونسأل: كيف يكون البلاء نعمةً، وهو نقص في نعم الله المعروفة، من مال، وولد، وصحّة، وأمان؟! وهل يعقل أن يكون فقدان النعمة نعمة؟! إنّ من طبيعة الإنسان أن يرفض ما يسلبه هدوء باله، ولكنّ الأحاديث الشريفة المتواترة التي كشفت عن فلسفة البلاء، وتغوص في عمق الحقيقة لتستخرج جوهرها ومكنونها، وهي لا تقتصر على هذين الحديثين اللذين استهللنا بهما هذه الإشراقة، تؤكّد لنا أنّ البلاء ليس إلّا صورة ظاهرة داكنة لنعمة زاخرة باطنة. ومثلما أنّ كلام أهل بيت العصمة (عليهم السلام) لم يكن قطّ كلامًا فحسب، ولم يسبق لأحدهم أن طرح سنّة لم يطبّقها بالأفعال العملية، حتى تصبح قانونًا وعقيدةً يهدي بها البشرية، فكذا كان البلاء في مدرسة السادة الأصفياء، ولعلّ الناظر عن كثبٍ في تفاصيل حياتهم الشريفة، يرى أنّهم حازوا من هذه النعمة المكنونة النصيب الأوفى، فالبلاء الذي أصابهم على مدى سني عمرهم كان أقسى من أيّ بلاءٍ أصاب غيرهم من عباد الله الصالحين، حتى أنّنا كلّما اطّلعنا على سيرهم النبيلة، نجدها مصداقًا لا شكّ فيه لهذه الفلسفة الأصيلة. ولنا أن نتوقّف عند نماذج قليلة من هذه البلاءات التي اصطفى الله بها أحبّته، ولنا أن نختارها من شهر شوّال الذي شيلت فيه الذنوب عن العباد شيلًا، بعدما اغتسلوا من أدران المعاصي في شهر الصيام، لكنّ أهل بيت العصمة (عليهم السلام) كانوا ولا يزالون يحملون همّ البشرية، فهم الأنموذج والقدوة في كلّ مكرمة وبليّة، ها هو ذا نبيّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله) يبتلى بفقد ولده إبراهيم، إذ يخيّر بين سبطه الحسين (عليه السلام) وبينه، فيختار الحسين (عليه السلام) قائلًا: "أتاني جبرائيل من ربّي عزّ وجلّ، فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرأ عليك السلام، ويقول: لست أجمعهما، فافد أحدهما بصاحبه"(3). وذا هو الإمام الكاظم (عليه السلام) يستهلّ سلسلة بلاءاته بالحبس في سجن الطاغية العبّاسي هارون؛ ليكون قدوةً في البلاء، وسراج ظلمات الأسرى الذين يرون في معاناته القصوى خير عزاء. وكذلك الإمام الصادق (عليه السلام) يختم حياته الحافلة بالتقى، والزهد، والفلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإرشاد الأمّة، وكشف الغمّة عن النفوس المدلهمّة، وإذا به يرحل شهيدًا بالسمّ على يد طاغية زمانه المنصور الدوانيقي. هي بلاءات امتحن بها المعصومون (عليهم السلام)، وكانوا في كلّ خطوة يشكرون الله على عظيم بلائه، ويشرقون شموسًا يهتدي بها البشر في كلّ أمر كبر أو صغر، فهم المثال الأعلى الذي نقتفي به الأثر، ونفهم أنّ البلاء نعمة حقًّا، فلو كان نقمةً لما خصّ الله به صالحي عباده، مثلما أنّ أثره البيّن في ارتقاء النفس والوجدان، يجعل المرء يفهم سبب ما قاله لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "إنّ عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبّ الله عبدًا ابتلاه بعظيم البلاء"(4). إنّ فلسفة البلاء الاستثنائية التي تعكس على حياة الإنسان نورانيةً شفّافةً، لجديرةٌ بأن تكون محورًا للبحث والتحليل، وعسى أن يكون لنا معها إشراقة ترقى بنا إلى مدارج التهذيب الروحي الأصيل. ..................... (1) ميزان الحكمة: ج1، ص304. (2) شرح أصول الكافي: ج9، ص222. (3) بحار الأنوار: ج22، ص153. (4) الكافي: ج2، ص253.