صادق العترة الطّاهرة (عليهم السلام)

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 44

تطأطئ الرؤوس لهيبتكم، وتضطرب النبضات لذكر اسمكم، وترتعش الفرائص في حضرتكم، ويخضع كلّ متجبّر لطاعتكم. أقف على أعتاب الزمان وأروي قصّتي، فأنا أقرب إليه من كلّ أحد، دمعتي تناغم دمعته، وفي الدرس أسمع قولته، وأتعطّر بعطر أنفاسه. أنا تاج مرصّع فوق رأسه، وعمامة من قماش بسيط أعتلي هامته، تلك الهامة التي لم تنحن لغير الله تعالى، عمامة آبائه وجدّه، كأنّني ألفّ الكون بأسره. كم أغبط نفسي على هذا التوفيق من بين كلّ الخيوط أن أكون له رفيقًا. باقر العلم (عليه السلام) والده، والطاهرة فاطمة بنت القاسم (عليها السلام) أمّه التي قال عنها: "كانت أمّي ممّن آمنت، واتّقت، وأحسنت، والله يحبّ المحسنين"(1). وكان (عليه السلام) يعمل بأرضه، يستفرغ وسعه وجهده في زراعتها وحرثها، والعرق يتصبّب منه ويقول: "إنّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة"(2). لكنّ الدنيا لفضله تنكّرت، وضغائن قلوب المجرمين كبيوت العنكبوت حوله نسجت؛ لأنّهم ارتعدوا من شمائله المحمّدية، والعزيمة العلوية، وقد بهتوا لهذا الفكر الوقّاد، فأوغر في صدورهم أحقادًا بدريّة وحنينيّة. آهٍ، آهٍ، كم كظمت غيضك يا مولاي، وبالعبادة قضيت عمرك، ومراجل حقدهم تغلي سمًّا ليغدروا بك، ويذيقوك زعاف مرارته.. أضرموا النار بباب دارك، فأنت وارث الزهراء (عليها السلام) أمّك. رمقت النار بطرفك، وتذكّرت عمّاتك، آهٍ لرزء يوم الطفوف وجرحه.. رحت تخمد نارها بدموع عينيك، بآهات وشجون تلهب أضلاعك، فتقول: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"(3). أحزان عاشوراء تتراءى أمامك صباحًا ومساءً، ولا تغادر شغاف قلبك الحزين. ضاق الفضا برحبه على إمامنا الصادق (عليه السلام)، وشدّدوا عليه، وقد أغلقوا منافذ الفرج عنه، وظلّوا يراقبون تحرّكاته، ويحسبون أنفاسه، وهو في غنىً عنهم، مشغول بآخرته، وصلاح شؤون أمّة جدّه، لكنّ الظالم لم يمهله، بل استحكم أمره، وقرّر أن يرميه بسهام بغيه، فأصابت روح الإمام وفؤاده، والسمّ سرى في عروقه الطاهرة، ونال الظالم ما كان يريد خوفًا على سلطانه، لكنّه لم يعلم أنّ حبّ الإمام في قلوب محبّيه متربّع، ومن فيض وجوده أرواح الخلائق ترتع. تعانقت النظرات، وفاضت العبرات، وصرت أنوح وأتلجلج بين خيوطي؛ ثم علت في أرجاء المدينة الصيحات، فقد رحل الصادق (عليه السلام) إلى جنّات ربّه صابرًا محتسبًا، وعلى قبره كان آخر اللقاء. سيّدي يا صادق العترة، أنرت حياة محبّيك، وأخرجتهم من دهاليز العتمة إلى الضياء الأبلج، فاستضاء الكون بنورك الذي لا يطفأ. .......................................... (1) الكافي: ج1، ص472. (2) بحار الأنوار: ج47، ص57. (3) المصدر السابق: ج45، ص218.