السيدة نجمة الطاهرة (عليها السلام)
بين (نجمة، أروى، تكْتم، سكن النوبية، الطاهرة) تتنقل الحروف كالفراشات فوق الأزهار، بين الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة تتسامى تلك السيدة بكيانها الطاهر. صفاتٌ نبيلة، وشمائل رفيعة، تقىً وكمال، علمٌ وطيب خصال، كلها اجتمعت في تلك الجارية المغربية التي استقرت ذات يوم من أيام المدينة الزاهرة في بيت من بيوتات آل محمد (صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين)، يقف القلم عند ذكرها إجلالًا، وينضب حبره، فكيف يحيط بها خبرًا وهي من اختارها كاظم آل محمد (صلوات الله عليهم) بعلم الله ورسوله، واصطفاها من دون نساء العالمين، ورفعها فوق كل حرةٍ وأمة؛ لتكون أما لمعصوم، بل لمعصومين. وبدون أدنى شك أن لها عند الله شأنًا من الشأن، إذ حملها من بلادها القصية، جاريةً مسبية، فأراها للإمام في رؤيا مروية، وأشار إليها جده النبي وأبوه الإمام الصادق (عليهما السلام) قائلين: "يا موسى، ليكونن لك من هذه الجارية خير أهل الأرض بعدك... "(1)، بل إن (حميدة) المصفاة أم الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وهي من علمها وتقاها وورعها مشهود، رأت في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لها: "يا حميدة، هبي نجمة لابنك موسى، فإنه سيلد له منها خير أهل الأرض"، فوهبتها له(2). كلها مقدمات سبقت حضور السيدة (نجمة) إلى بيت العصمة والطهارة، وإخبار بمستقبلٍ محفوفٍ بالنور الإلهي والبركات الملكوتية، فليست كل امرأةٍ جديرة بحمل هذا النور، ولو لم تكن فيها الصفات الروحية المطلوبة، لما فازت بهذا الوسام الرباني. لكن السيدة الجليلة (نجمة) التي ارتقت مدارج الكمال والفضيلة في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، لم تكن أما لمعصومٍ واحدٍ فقط، ولم تدخر للتاريخ والأجيال إمامًا فحسب، مع أن شرف أمومتها للإمام يكفي وزيادة؛ لكنها فاقت تلك الثلة الطيبة الطاهرة من أمهات المعصومين (عليهم السلام)، خلا السيدة الزهراء (عليها السلام) بأنها ولدت أيضًا تلك السيدة النجيبة الحبيبة التي قال فيها جدها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) دون غيرها من سليلاته الطاهرات، قبل ولادتها بأجيال: "ستدفن بضعةٌ مني بأرض قم، فمن زارها عارفًا بحقها فله الجنة"(3). نعم! لقد شعشعت (نجمة) في سماء أمهات المعصومين (عليهم السلام)، طاهرةً من الطاهرات، وأما لسيد العرب والعجم أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، ولشقيقته المصطفاة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، فجمعت المجد من طرفيه، وأحاطت بالهدى الذي هما عليه، فكانت خير أم وأفضل قدوة، إذ ولدت للإمام الكاظم (عليه السلام) ثلاثة من الذكور، أكبرهم الإمام الرضا (عليه السلام)، وابنةً واحدةً هي فاطمة المعصومة (عليها السلام) التي تفوقت على سائر أخواتها الفاضلات العالمات من بنات موسى بن جعفر (عليهم السلام)، فكان لها مقامها المميز بينهن في حياتها، إذ قال بحقها أبوها الإمام بعد إجابتها الشيعة عن مسائل صعبة وهي بعد حديثة السن: "فداها أبوها"(4) ثلاثًا، وبعد مماتها كان لها مقام البضعة في قم المقدسة، التي ما تقدست وجل قدرها في البلاد إلا بوجودها المقدس في ثراها الطيب، ولعل من إشارات التميز التي حفت بالسيدة الجليلة (نجمة)، أن شهر ذي القعدة كان مسرحًا ومحطًا لتلكما الولادتين الجليلتين، ففي الأول منه عام (179هـ) كانت ولادة فاطمة المعصومة (سلام الله عليها)، وفي الحادي عشر منه قبل (26) عامًا، أي عام (153هـ) كانت ولادة الرضا (عليه السلام)، وفي لحظة تأملٍ نرى أن (نجمة) الطاهرة استهلت عمرًا شريفًا من كراماتها الباهرة بولادة ثامن الحجج الأبرار، واختتمتها بولادة بضعة الأطهار، وكان لها بين دفتي كتاب الأجل مكارم وأسرار، لا يعرفها إلا من خاض تلك الغمار، واقتطف من درها ومرجانها ما شاء الله واختار. ................................... (1) الأنوار البهية: ص٢١٠. (2) مستدرك سفينة البحار: ج٧، ص٣٩٢. (3) بحار الأنوار: ج٤٨، ص٣١٧. (4) المصدر نفسه: ج43، ص20.