الوجه الآخر

كوثر حسين العريفاوي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 336

استيقظ صباح ذلك اليوم تحوم حول هامته علامات الاستفهام: كيف يراني، وكيف أبدو له؟ يواصل يومه، يتجه صوب عمله مشتت الذهن كلعبة المكعبات، تبدو الطرق بألوان لم يعتد عليها، وكذلك الناس، كان يرى ظلهم فقط، يحدث نفسه: من أين أتت هذه الفكرة ورسخت في بالي؟ يا الله، هون علي ثقل هذا الشعور. أصوات تتردد في أعماقه: آهٍ، لقد فشلت في لفت انتباهه، لم لم تفعلي شيئًا أيتها النفس البليدة! من قال إني نلت إعجابه؟ لقد أصبح الطريق طويلًا، لا أعلم كم سأستغرق للوصول. وصل إلى مكان عمله، بالتأكيد لم يكن يملك العصا السحرية لإخفاء ملامح الحيرة عن وجهه المتوتر، بينما انهمك في تلك الأوراق، قطع سلسلة أفكاره صديقه المقرب: _ أهلًا جمال، صباح الخير! _ أهلًا وسام، صباح الخير. _ ما الأمر؟ أراك محمر الوجه، لا تقل لي قد تخاصمت مع زوجتك كالعادة. _ ليس الأمر كذلك، لكن هل لي أن أسألك؟ _ حسنًا، اسأل يا صديقي، فحالك يقلقني اليوم يا رجل. _ قل لي: هل تشعر بالرضا عن نفسك؟ هل صنعت شيئًا يستحق أنْ تفخر به؟ _ سؤال غريب، لكني لم أفكر ولا لمرة في قيمة الأشياء التي أفعلها؛ لذا لا أدري ماذا أجيبك، ماذا يحدث معك بالضبط؟ _ لندع الأمر حتى نهاية الدوام. _ حسنًا. كانت الساعات تتلاشى، وما يزال يدور في الدوامة نفسها، وها هو الباب ينفتح مع ابتسامة وسام الموحية باقتراب الموعد. _ لا يمكن اختلاق الأعذار يا صديقي، فقد حان وقت البوح. _ حسنًا، اجلس وأخبرني كيف ينظر الله إلينا ونحن لم نفعل ما ينفع الأمة بشيء، لم نخترع آلةً أو جهازًا، لم نتحرك لردع خطرٍ ما، بربك ألسنا بلا قيمة؟ وإذا متنا، فمن سيتذكرنا؟ وسام ينتبه بعد نصف ابتسامة: _ آسف، لا أقصد الإهانة، لكنك فكرت هذه المرة من جانب واحد ليس بتلك الأهمية، أتذكر صاحبنا القديم؟ صاحب المؤلفات العلمية العديدة؟ سكت جمال لبرهة، ثم قال: نعم، لقد تذكرته. _ لقد كان لا يصلي، وترك عائلته وأولاده، وهجر جميع أحبائه، وفي الآونة الأخيرة بات لا يحترم أحدًا، ويقلل من شأن الناس، وأنت تعرف باقي الحكاية، فقل لي بماذا تنفعه مؤلفاته؟ دعنا منه، سأخبرك عن قريب لي، ممن أسهم في بناء أربعة مساجد في عدة بلدان، يحترمه الناس ويقدرونه؛ لأنه يحسن معاملتهم جميعًا، لكنه حرم زوجة ابنه المتوفى وأطفالها من حقهم في الأرث، والآن يسكنون في بيت صغير وتتصدق عليهم الناس، قل لي بالله عليك: هل يعد هذا إنجازًا؟ إذًا، الإنجاز العظيم هو أن تكون إنسانًا في مواقفك، حينها تستطيع منافسة الملايين من البشر ممن صنعوا واجتهدوا ونفعوا العالم باختراعاتهم، موقف إنساني واحد قد تنال به رضا ربك والجنة، ألا وهو أن تنام من دون أن تظلم أحدًا، أن تكون راضيًا بما قسم الله لك، فأن تحافظ على أسرتك إنجاز، فقد تنجز في كل يوم أشياء عظيمة تضاهي ما ينجزه الكثيرون، لكن الله ينظر لعباده بعين الرحمة كلما نقت نفوسهم من الداخل، أحبهم الله وصاروا بعينه، المهم هو أن لا تستهين بما تقدمه، فالكلمة الطيبة، والمواساة، والتحنن، والصدق مع الناس كلها إنجاز، والعفو، والصفح، والتسامح كلها إنجازات عظيمة يا عزيزي، قد يفشل في إتيانها العباقرة!