رياض الزهراء العدد 89 أنوار قرآنية
شَذَراتُ الآيَات_ 26
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) / (النور: 40,41) تتحدّث جميع الآيات التي فسّرناها من سورة النور من أولها إلى هذه الآية عن مشاهد مختلفة من النور والظلمة التي لا تعني سوى الحرمان من النور وتصدق على الناس الذين لا ينتفعون بالأنوار التي خلقها الباري(عز وجل) وكلّف الإنسان بالاستنارة بها. أمّا هذه الآية تتحدث عن موضوع ذكره القرآن الكريم وهو تسبيح وتمجيد المخلوقات لله(عز وجل) لذا قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، إنّ المخاطَب في هذه الآية هو النبيّ محمد(صلى الله عليه وآله) إذ يقول له الله تعالى: ألا تشاهد وترى أن كلّ ما في السموات والأرض والطير كلّها تسبح لله(عز وجل) وهو تعالى عليم بفعلهم..(1) ماذا تعني عبارة (أَلَمْ تَرَ)؟ تعني ألم تعلم؟ حيث التسبيح من قبل المخلوقات في العالم جميعا لا يمكن إدراكه بالعين بل بالقلب والعقل ولكون هذه القضية واضحة جداً وكأنها ترى بالعين المجردة استخدمت الآية عبارة (أَلَمْ تَرَ) وعلى الرغم من كون المخاطب في هذه الآية هو النبي(صلى الله عليه وآله) بالذات فإن عدداً من المفسّرين يرى أنها تشمل الناس جميعاً. وقال البعض: إن هذا الخطاب خاص بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) والمخلصين من عباده في مرحلة الرؤيا والمشاهدة؛ لأن الله(عز وجل) منحه القدرة على مشاهدة تسبيح جميع مخلوقاته، أمّا بالنسبة لعامّة الناس فالمسألة تخص إدراكهم لتسبيح المخلوقات عن طريق العقل وليس بالمشاهدة البصريّة. أمّا بالنسبة لآية (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فتعني أن هناك تسبيحاً خاصاً بالطيور، إذ نسب عدد من المفسرين ضمير (علم) إلى كلمة (كُلٌّ) وبهذا يصبح معنى العبارة السابقة: (كلّ من في الأرض والسماء وكذلك الطيور علم صلاته وتسبيحه) وبهذا الترتيب يعلم كلّ مسبّح لله أسلوب تسبيحه وطريقته وشروطه وخصائص صلاته التي تعني هنا بمعنى الدعاء. ما السبب في ذكر تسبيح الطيور من بين جميع المخلوقات؟ المسألة تكمن في أن الطيور إضافة إلى تنوعها الكبير تمتاز بصفات خاصة تجلب نظر كلّ عاقل إليها حين تحلّق هذه الأجسام وبعضها ثقيل في السماء خلافاً لقانون الجاذبية وتطير بسرعة من نقطة إلى أخرى في الجو وتركب أمواج البحار وهي (صافات) أي باسطة ذراعيها دون تعب أو جهد بشكل يثير الإعجاب، ولها موهبة أخرى وهي إدراكها لقضايا الأنواء الجويّة ومعلوماتها الدقيقة لوضع الأرض الجغرافي خلال هجرتها من قارة إلى أخرى وهذه هي أكثر الأمور إثارة للدهشة والعجب وغيرها من الأمور التي جعلت القرآن الكريم يخصّها بالذكر..(2) أمّا بخصوص الآية (وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) أي الله(عز وجل) عالم بجميع أفعالهم ولا يخفى عليه شيء سواء في حال الطاعة أو المعصية ومجازيهم عليها. أمّا عبارة (وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) هذه الآية بمثابة تتمّة للآية التي سبقتها ومفادها أن كلّ شيء لله تعالى وتحت أمره وليس ثمة موجود خارج إرادته ونفوذه وقدرته أمّا عبارة (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) كلمة (الْمَصِيرُ) مشتقة من الصيرورة, أي التبدّل والتحوّل من حالة إلى أخرى كقولنا صارت (النطفة) علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم جنيناً ثم صبياً ثم يتحول من صبي إلى رجل والسؤال الذي يُطرح في الأذهان هو: ما هي نهاية هذه التبدّلات والتحوّلات التي يصبح التراب على أثرها إنساناً, والإنسان تراباً.. إلخ؟ إنّ جميع ما ورد يصير إلى الله(عز وجل) وهذه حقيقة المعاد والواقع أن هذه الآية تعبّر عن هذه الحقيقة.(3) .................................. (1) تفسير سورة النور: ص117،118. (2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج11، ص81-83. (3) تفسير سورة النور: ص129-131.