السَّجادُ (عليه السلام) مِن البَكَائِين

فوزية سعد
عدد المشاهدات : 188

ظاهرة البكاء هل هي من الأمور الممدوحة أو من الأمور المذمومة؟ وهل تشريع البكاء مستحب أو مكروه أو محرم؟ البكاء يصفه القرآن الكريم من الأمور الممدوحة ويصف به المؤمنين المتّقين؛ لأنه ينم عن رقة القلب بخلاف الضحك والفرح؛ لأنه يكشف عن قسوة القلب ويصفهم بالغفلة ومن الممكن أن يتلبس فعل البكاء بالأحكام الخمسة فهو مستحب بالعنوان الأولي، فالبكاء من خشية الله تعالى والبكاء على أولياء الله(عز وجل) فهو مستحب مؤكّد ما ورد في الروايات والدليل أن كلّ قول أو فعل أو تقرير معصوم فهو حجّة فلو كان البكاء غير محبوب عند الله(عز وجل) لم يفعله الأنبياء والأولياء والصالحون. نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله) بكى كثيراً عند استشهاد عمّه حمزة وبكت معه الزهراء (عليها السلام) وجميع النسوة وكذلك بكى رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما أخبره جبرائيل عن استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، ويمكن أن يكون البكاء واجباً بالنذر، وأيضاً يكون مكروهاً إذا بكى الإنسان على فقد الأموال أو المنصب أمّا البكاء المباح فهو عند المصائب بفقد العزيز فبكى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عند موت ولده إبراهيم(عليه السلام) وأشكل عليه المسلمون: يا رسول الله تبكي وأنت تأمرنا بالصبر في النوازل؟ فقال(صلى الله عليه وآله): “العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب”(1). أمّا البكاء المحرم فهو إذا وصل إلى حالة الجزع والاعتراض على الله تعالى. ما هي فوائد البكاء: • تحل العقد والأزمات النفسيّة التي تحصل للإنسان إذ عجز العلم عن معالجتها، هذه الأزمات تترسّب على القلب على شكل عقد بسبب النكبة فلا يحلّها سوى الانتقام فإذا عجز الإنسان عن الانتقام فلا تجد العقد المجال للتعبير عن النفس فتنقلب إلى حقد فتجعل صاحبها يميل إلى الشر فيقول الباحثون: (وجود الحقد في النفس بلاء إذا أصاب المجتمع لا ينجو من ويلاته خيّر ولا شرير..) فلابدّ من إزالتها فلذلك الإسلام يوصينا بالبكاء وهو الدواء الوحيد الذي يُذيب هذه العقد قبل أن تستحوذ على العقل الباطن ثم تسلك طريقها إلى التصرف الخارجي. • في البكاء جانب تربوي لأنه لا يكون إلا بعد انفعال الباكي بالحادث الأليم وكلّ حادث فيه ظالم ومظلوم أو ضحية ومن الطبيعي هذا الانفعال يؤدي إلى ميل الباكي إلى الضحيّة أو المظلوم ومعاداة الظالم فهنا تهيج الثورة على الظالم والإشفاق على المظلوم كما يبكي الناس على الإمام الحسين(عليه السلام) الذي يمثل جبهة الحق ومعاداة يزيد الذي يمثل جبهة الباطل. فمن البكّائين هو الإمام زين العابدين(عليه السلام) على سيّد الشهداء(عليه السلام) طوال حياته وهذا البكاء لم يكن للعاطفة إذ كان الإمام يريد أن يعرّف الأجيال بهذا الخطب الجلل وبما جاء به الأمويون من القساوة والفظاعة وخروجهم من الدين فقد بكى الإمام السجاد(عليه السلام) المدة التي عاشها بعده(عليه السلام) حتى قال له مولاه: إني أخاف أن تكون من الهالكين، فقال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)/ (يوسف:86) إني لم اذكر مصرع بني فاطمة إلا وخنقتني العبرة وقال له آخر: أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال(عليه السلام) : ويلك لقد شكا يعقوب إلى ربه بأقل مما رأيت حين قال: يا أسفي ولم يفقد إلا ابنا واحداً وهو حي في الدنيا وأنا رأيت أهلي وجماعة معهم يُذبّحون حولي، وكان (عليه السلام) كلّما شرب الماء يتذكر عطش أبيه الحسين(عليه السلام) فيبكي حتى يمتزج الماء مع الدموع وقد سبقته في هذا الجهاد الأكبر جدته الزهراء (عليها السلام) وحاولوا إسكاتها معتذرين بأن نفوسهم لا تطيب طعاماً ولا شراباً وعزيزة الرسول(صلى الله عليه وآله) تنوح الليل والنهار فلم تهدأ عن البكاء فاضطر سيد الأوصياء(عليه السلام) إلى إخراجها إلى البقيع وبنى لها بيتاً من جريد النخل سمّاه بيت الأحزان، فالبكاء يوجب إلفات نظر الناس إلى الأسباب الباعثة إليه وبهذا تتجلى لهم الحقيقة ويروا بصيص ألق الحق المحجوب بظلم الجائرين. ولقد كان البكاء واحداً من الأساليب التي جعلها الإمام السجاد(عليه السلام) وسيلة لإحياء ذكرى كربلاء. ................................. (1) بحار الأنوار: ج2، ص303. المصدر أعلام الهداية: ج6، ص72. منتهى الآمال: ج2، ص48.