رياض الزهراء العدد 89 رحيل الرحمة
لا خَيرَ بعدَكَ فِي الحَيَاةِ يا رَسُولَ اللهِ صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ علَيكَ
دقّ جرس الفراق مؤذناً بالرحيل، وتجحفلت أفواج الملائكة استعداداً للعروج، وتلفّعت السماء بأثواب قواتم، وارتعدت الأرض من خطب جليل، إنه اليوم الأخير يوم تقرير المصير، يا لهف قلبي كيف يحتمل ذلك الحزن الكبير الذي لو مسّ أرضاً كادت البراكين من حرارته تثور؟! إنه يوم فراق الحبيب إنه يوم الاثنين الثامن والعشرون من صفر للسنة الحادية عشرة من الهجرة المباركة، حيث معراج آخر للمصطفى الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلّا أنّ هذا المعراج يختلف عن سائر المعارج، إذ إنه معراجٌ لا عودة منه، رحل وعيناه ملؤها الحسرة واللوعة على مصير هذه الأمة التي ما فتِئت تكذب وتعاند وتشكّك، رحل وفي صدره لواعج كمدٍ وأشجانٍ وآلامها على أهل بيته(عليهم السلام)الذين خلّفهم وأودعهم في أمته مع علمه بما سيجري عليهم من هذه الأمة، وما سيؤول إليه مآلهم إلّا أن الأمر الإلهي صدر بحقه (وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)/ (الضحى:4) وهو أول المسلمين والمؤتمرين بكلّ ما يصدر عن ساحة القدس العظيم. وأعود لأتساءل: كيف استقبل المسلمون ذلك اليوم الكئيب الرهيب؟ كيف افتقدوا نور وجهه الذي كان يضيء لهم في الليلة الظلماء؟ كيف حرّموا شذاه الذي كان يُشم منه على بعد مسافات؟ كيف انقطع عنهم صوته وهو يرتل الآيات؟ كيف خسروا صلاته وهو يؤمّهم وتتنزل به عليهم البركات؟ آه.. آه.. ما أعظم مصيبتنا بك يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليك وعلى آل بيتك الأطهار، حيث انقطع عنا الوحي، وحيث فقدناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكيف لا تعظم المصيبة بفقد الملاذ الآمن لجميع سكان المعمورة من عذاب الاستئصال؟ فبوجوده المبارك الشريف رفع الله تعالى ذلك العذاب عن أهل الأرض لقوله (عز وجل):(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)/ (الأنفال:33). فكان الملجأ والغياث والمأمن لكلّ ذي روح، فكيف لا تنشّق لفقده الأرض وتنفطر السماء وتخرّ الجبال هدّاَ؟ والأدهى من ذلك والأمض هي الفتنة العظمى والانقلاب الخطير الذي أعقب رحيله(صلى الله عليه وآله) من قِبَل ثلة من المنافقين والانتهازيين الذين تآمروا على الدين واتخذوه وسيلة لتحقيق أغراضهم الدنيئة كما صرّح بذلك القرآن الكريم قبل وقوعه، إذ يقول(عز وجل): (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)/ (آل عمران:144). فتركوا ما أوصى به، ونبذوا ما أشار إليه، وهو ولاية وصيّه حقاً ووزيره صدقاً وخليفته على أمته والمؤتمن على رسالته، واعصوصب ذوو المطامع والطامحون للمناصب في سلب حقوق الذرية الطاهرة وظلمهم والاعتداء على أشرف بيت في الإسلام، ذلك البيت الذي طالما وقف(صلى الله عليه وآله) على بابه منادياً (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)/ (الأحزاب:33). وصاحبة ذلك البيت بضعته الطاهرة وصديقته الكبرى، فيعتدي عليها القوم بتلك الطريقة الآثمة، وتُسلب نحلتها، ويسقط جنينها، ويكسر ضلعها، حتى أمست بأبي هي وأمي تندب أباها بأشجى ندبة قائلة: “..يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين!، يا أبتاه أصبحت الناس عنا معرضين!، ولقد كنَّا بك معظَّمين في الناس غير مستضعفين!، فأي دمعة لفراقك لا تنهمل؟، وأي حزن بعدك لا يتصل؟، وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل؟، وأنت ربيع الدين، ونور النبيين، فكيف بالجبال لا تمور؟ والبحار بعدك لا تغور؟، والأرض كيف لم تتزلزل؟، رُميتُ - يا أبتاه - بالخطب الجليل، ولم تكن الرزية بالقليل، وطُرِقتُ - يا أبتاه - بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول، بكتك - يا أبتاه - الأملاك، ووقفتِ الأفلاك، فمنبرك بعدك مستوحش، ومحرابك خال من مناجاتك، وقبرك فرِحٌ بمواراتك، والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك، يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك!، فوا أسفاه عليك..”.(1) ................................. (1) فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد: ص203.