خُطْبَةُ الحَورَاءِ (عليها السلام) هَزَّتْ عُرُوشَ الطُّغَاة

وفاء عمر عاشور
عدد المشاهدات : 249

(فكد كيدك, واسع سعيك, وناصب جهدك, فو الله لا تمحو ذكرنا, ولا تميت وحينا, ولا يرحض عنك عارها, وهل رأيك إلا فند, وأيامك إلا عدد, وجمعك إلا بدد, يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين).(1) هذا قبس من خطبة السيّدة زينب (عليها السلام) التي ألقتها في محضر يزيد الملعون، والتي أظهرت فيها شجاعة قلّ نظيرها، وجسدت فيها ما ورثته من بلاغة أبيها علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقوة الفطنة من أمها البتول فاطمة (عليها السلام)، فكانت خطبتها كالسهام المسمومة التي تفري جسد يزيد، وأطرقت مسامعه بكلمات كشفت فيها عن حقيقة إلحاده وزندقته, وتشفيه الصارخ لأشياخه الكفرة من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وذلك بفعله المشين وهو ينكث ثنايا أبي عبد الله (عليه السلام) بمخصرته، فأزالت النقاب عن هويته وهويّة أبائه وأجداده أمام الشاميّين بعبارتها الفصيحة (يا بن الطلقاء)؛ لتذكره بسماحة أخلاق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعفوه, ولولا تلك الأخلاق لما بقي لبني أمية باقية تذكر. فكانت (عليها السلام) صوت الإمام الحسين (عليه السلام) الناطق في محضر يزيد الذي كان يضجّ بالجماهير من مختلف الشخصيات المدنية والعسكرية, وأراد الملعون بغباء أن يوهم القوم بأنّ انتصاره على أهل النبوة(عليهم السلام)ما تم إلا بعون الخالق العزيز، فعمدت الحوراء (عليها السلام) إلى تسويف ادعائه وتوهين مزاعمه، كما كان لخطبتها استقراء للمستقبل، فهي العالمة العاملة. وأرادت مجلة رياض الزهراء (عليها السلام) أن تعرف ماذا تعني هذه الخطبة الغراء بالنسبة إلى مختلف الفئات والشخصيات في المجتمع؛ لذا قامت بإجراء اللقاءات الآتية؟ وكان رأي الأخ الرادود الحسيني (مرتضى حيدر الكربلائي) الذي أجاب مشكوراً: لقد أعطت خطبة الحوراء زينب (عليها السلام) نموذجاً فريداً في عالم مواجهة الظلم والطغيان لامرأة قاست أنواع الجور في مدة قصيرة، فقدت بها كلّ ما تملك من عناصر القوة، وأمست بعد نهار مشؤوم ثكلى تنعى الأحبّة من الإخوة والأولاد, ولتجد نفسها غريبة بين وحوش ضارية تسلب منها كلّ ما تقع عليها أياديها، وكانت (عليها السلام) مسؤولة عن ما تبقى من بقية أهلها، تزرع فيهم القوة والصبر على ما لاقوه من أعدائهم, ثم لتقاسي معاناة الأسر وهي ابنة المصطفى(صلى الله عليه وآله) صاحب الفضل الذي لا يُجازى على دعوة الناس ودخولهم إلى الإسلام, فيا غرابة الموقف، أتُجازى ابنة الرسول(صلى الله عليه وآله) بهذه المجازاة وتدور في البلدان؟! وهي مع هذه المعاناة تقف بكلّ شموخ في مجلس فرعون زمانها غير مبالية لوجوده، بل تستصغر قدره وتستعظم تقريعه، وتخطب خطبتها الغرّاء متجاهلة إياه؛ لتثبت بها كذب حججه لمحاربة سبط النبي(صلى الله عليه وآله)، وأسره لذراري الأنبياء غير آبهة بسطوته وغطرسته وهو بين حاشيته وقادة جيوشه, فلم تترك الحوراء (عليها السلام) موقفاً للشجاعة إلا وارتدته. أما الأخت رجاء عباس أحمد فقالت: لن يستطيع قلم أعظم كاتب وريشة أفضل فنان أن يصف ما جرى في مجلس يزيد لعنه الله حين قامت سيّدة الطف وعقيلة الهاشميين بكلّ ثقلها وما تملك من بلاغة وفصاحة ومن بين سلاسل الأسر بمواجهة أمير الجور والفساد مقدّمة له الضربة التي أذلّت سلطانه الواهي, وما أعظم تلك العبارة التي أطلقتها حين ألقت خطبتها النارية في ذلك المجلس قائلة (فو الله لا تمحو ذكرنا) إذ أثّرت في أعماق نفسي، وكانت أنفذ من السيف في قلبي، ورحلت معها إلى ذلك المكان الذي تشرف بوقوف الأقدام التي لولاها لساخت الأرض، وبها أعلنت للطاغية الذي جنّد كلّ قواه لطمس أنوار أهل البيت(عليهم السلام)بأنّ عمله كان هباءً منثوراً؛ لأنهم قائمون في قلوب المسلمين وعواطفهم وبالفعل تحقق ما قالته السيّدة زينب (عليها السلام)، وتحولت مأساة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مجد وذكر لم يبلغه أيّ إنسان، وكانت عبارتها كالصاعقة نزلت على رأس الطاغية، فجعلته يتصاغر أمام شموخها, وبالفعل ارتفع ذكر الإمام الحسين(عليهم السلام)وأهل بيته وخلدوا عبر السنين، ونزل يزيد وأعوانه إلى مزابل التاريخ واسودّ ذكراهم واندثر, فهذه العبارة من تلك الخطبة كان وقعها عظيماً في نفسي ونفوس المحبين لأهل البيت (عليهم السلام)، فهي عنوان لانتصار الحقّ على الباطل. وأمّا الأخت محاسن آل طعمة / فأردفت قائلة معبّرة عن رأيها: أرى في كلامها (عليها السلام) أنها قد ثبّتت جذور الحقّ الذي خرج لأجلها أخوها الإمام الحسين (عليه السلام), فوثوبها كالأسد الثائر بوجه الطاغية يزيد هزّ عرشه الفاني بصوتها المدوي الذي أرعب كلّ الطغاة وعلى مدى الزمان، فأنا أعدّ خطبتها مدرسة للأجيال ويجب أن تستثمر في كلّ زمان؛ ولأنها كانت منطق علي (عليه السلام) في سكك الكوفة, فعمق هذه الخطبة الجليلة ذا أثر بالغ في نفوس العالم أجمع، وكان لها موقف بطولي قلّ نظيره إذ لم تنحني أمام السيل العرم من أعاصير المصائب والمحن فلقد أدهشت بصبرها حتى الجبال الرواسي, وصارت أعجوبة التاريخ وهو يؤرخ عن أعظم المواقف للنساء. لقد رسمت الحوراء زينب (عليها السلام) في واقعة الطف نموذجاً حياً للمرآة المؤمنة وهي ترعى قافلة بني هاشم بعد غياب أقمارها في الوغى, فلم تستسلم وتنكسر، بل صارعت مرارة الأسر والفقدان والغربة عن الأهل والديار بكلّ ما أوتيت من قوة، ورفعت شعار مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته ودفاعه عن بيضة الإسلام في كلّ رقعة من رقاع العالم التي مرّت عليها, وبخطبتها العريقة جاهدة بأفضل أنواع الجهاد، وذلك مصداق لقول جدّها المصطفى(صلى الله عليه وآله) "...أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر"(2) ولا يعرف التاريخ سلطاناً جائراً كيزيد الملعون الذي لم يترك حرمة من حرم الإسلام إلّا وانتهكها، ففي السنة الأولى قتل سبط الرسول(صلى الله عليه وآله)، وفي الثانية انتهك حرمة مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) واستباح أهلها وأموالهم، وفي الثالثة ضرب الكعبة الشريفة بالمنجنيق, فعلينا كمسلمين ومسلمات أن نتخذ من منحى السيّدة الحوراء (عليها السلام) سبيلاً للوصول إلى المعالي ورضا الباري كلٌّ من موقعه، خاصةً ونحن نعيش في ظل فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله الوارف. ................................ (1) موسوعة زينب الكبرى (عليها السلام): ج6، ص116. (2) ميزان الحكمة: ج2, ص314.