ظَمْآنُ فِـي دَربِ الإسْلَام
كالظمآن عذب الماء وكالأعمى صوب شعاع النور ظل يفتش ويبحث بجهد حثيث، لم يقعد كفيف اليد ولم يرضى الرضوخ والخنوع، بل راح بكلّ همّه يبحث عن وجه الحقيقة المبتغاة. ضاق ذرعاً لكن تحدّيه لم ينثنِ إطلاقاً، وهام عشقاً لكن شغفه لم يرتوِ بعد، حتى تمرّد عن أغلال قومه وسنحت الفرصة لما كلّفه والده بالذهاب إلى ضيعتهم البعيدة، فراق له بعض التراتيل التي كانت تتعالى من داخل إحدى الكنائس، فأعجبته صلاتهم وقال لنفسه: (إن هذا الدين خير من الدين الذي نحن عليه). ولما حان الغروب عاد أدراجه إليه يخبره بأمر الدين الجديد الذي اكتشفه توّاً، وأعرب له عن رغبته في ترك عبادة النار والانضمام إلى دين النصارى، حبسه الأب جزاء لذلك ومنعه من مغادرة المكان عقوبة له وتنكيلاً..! لكن إرادته الصلبة وتحديه الشجاع حرّره من قيده وفرّ هارباً يفتش من جديد ويسعى للخلاص، فأنضم إلى إحدى القوافل الذاهبة إلى الشام وانتقل من كنيسة إلى أخرى وتحت ظل قس إلى آخر، وهكذا ظلّ ينتقل بينهم إلى أن عاش مع آخر قس في عاموريّة فلما حضرت القس الوفاة سأله الرجل قائلاً: ماذا يفعل بعده؟ فقال له: (إني يا بني لا أعرف أحداً على مثل ما نحن عليه ولكن أعلم وأجد في الكتب عندنا أنه بأرض العرب سوف يخرج نبي من بني إسماعيل مبعوث على دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهذا النبي سوف يخرجه قومه من أرضه مهاجراً إلى أرض بين حرّتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهديّة ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بهذه البلاد فافعل), ومات القس ودُفن وخرج الرجل يبحث عن النبيّ المنتظر (رسول الله(صلى الله عليه وآله)). صار الرجل بين يوم وليله عبداً لتاجر يهودي غير أن نشوته الغامرة بقرب مكانه من النبيّ اراخ عن صدره عناء الألم، وراح يصبو نحو ذلك اللقاء الميمون حتى دخل مدينة يثرب، ورغم أنه دخلها عبداً مملوكاً لكن ذلك لم يضيّع عليه فرط فرحته بقرب اللقاء. وذات صباح وبينما كان يعمل في حديقة اليهودي حضر إليه قريب له فأخذ يقصّ عليه قصة الرجل الذي تجتمع إليه الناس في قباء ويزعمون أنه نبيّ, فأخذ الرجل يتحقّق. وأخذ بعض العنب وذهب به إلى رسول الله الموعود(صلى الله عليه وآله). وراح الرجل يحقّق في العلامات الثلاث، فاقترب الرجل نحو رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال له: (لقد بلغني أنك رجل صالح وأنك ومن معك غرباء هنا ومعي طعام كنت قد خرجت به للصدقة ورأيت أن أعطيه لكم لأنكم عابرو سبيل) فقال رسول الله لأصحابه: (كلوا منه) وأمسك يده فلم يتناول منه شيئاً, فقال الرجل في نفسه: (هذه أولى العلامات التي حدّثني عنها القس الطيب). ثم دخل الرسول المدينة “التي كانت تُسمى يثرب” فأسرع إليه الرجل بهدية وقدّمها إليه وهو يقول له: (إنها هديّة لك لأني رأيتك لا تأكل من الصدقات) فأكل منها رسول الله وأكل أصحابه معه, فقال الرجل لنفسه: (هذه العلامة الثانية والله). وقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليصلّي على جنازة فتحوّل الرجل إلى ظهره ليرى خاتم النبوّة فألقى رسول الله رداءه عن ظهره فنظر الرجل فرأى الخاتم, فأخذ يقَبِّل رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويبكي فأمسك به رسول الله(صلى الله عليه وآله), وسأله عن قصته فقص عليه الرجل حكايته كاملة.(1) إننا في رحاب قصّة سلمان المحمّدي ذلك الرجل العظيم الذي رفض عبادة النار وراح فكره النيّر وإرادته الشجاعة تقوده إلى طريق الهدى والحق، ليعيش سلمان (رضي الله عنه) في حمى الإسلام المحمّدي ليبزغ نجمه وتتألق سجاياه، ويكون من الصحابة الأوائل وقد خصّه رسول الأنام(صلى الله عليه وآله) بكلام ميّزه وأبرز دوره ومكانته بين المسلمين حيث قال(صلى الله عليه وآله): “سلمان منا أهل البيت”.(2) ................................. (1) بحار الأنوار: ج22، ص365. (2) مناقب آل أبي طالب: ج1، ص88.