فِدَاءٌ للحُسَيْنِ(عليه السلام)

سدرة الموسوي
عدد المشاهدات : 199

في ظل زحام كبير وخطىً تتسابق فيما بينها، أصرّ أحمد ذو السنين الستة على المضيّ مع الحشود المسرعة وهي تحف الخطوات في طوابير التحدي فراحت عيناه تتوسل بأبيه ويداه الناعمتان تتعلقان به والرجاء يكبر في دواخله البريئة. كانت عينا أحمد ترقب الأحداث من حوله وتشاهد حركات الناس الحفاة وهم ينشدون زيارة أبي الأحرار فطفق مذهولا لما يجري وقد أصابته الدهشة لحال الجموع التي تزداد كلّ لحظة، ونظراته تترامى من فوق رقبة أبيه وقد ارتقاها خوف أن تدوسه الحشود الغاضبة. ضجت الشوارع بالناس وامتلأت الساحات بالوافدين نحو الضريح الشريف وكأن خُطُواتهم تعلن عزفاً فريداً لسيمفونية العشق والولاء، حتى الرايات راحت تشارك ذلك العزف وهي تخفق عالياً تحركها مشاعر الجموع وتسيرها آهات المحبين ودموعهم الحميمة. واكتسحت المدينة بالسواد ووجم الكون اجمع وصدى هتافات الجموع تنشد نشيجها فيردد المدى وعود الحب الدفين ويعقد مواثيق العشق الفريد لتصل الكلمات إلى كلّ أقطاب الكون ليمتد ابد الدهر ويرتمي بشكل دفعات من التواصل والامتداد الأبدي. (أبداً.. يا زهراء لن ننسى حسيناه).. كانت شفتا الصغير أحمد تتمتم بتلك الكلمات وهو يشارك اللحن الخالد والنشوة تدب في ثنايا جسده الصغير.. كانت فرحته لا توصف وقلبه البريء يتسارع في الخفقان مع كلّ خطوة تقربه نحو تلك القمم. ما يزال الطريق طويلاً ومد الناس يزداد ويكبر شيئاً فشيئاً، لم يكن أحمد يعي بعد ما تعني تلك الطقوس ولماذا هذا الغضب العارم من قبل الناس؟ أو لم تنهال دموعهم وتنكسر أصواتهم وتنتحب بين الحين والآخر؟ أحس بالبرد والنعاس يتسلل إلى جسده رويداً رويداً بيد أنه قاوم وناضل في سبيل أن يبقي عينيه مفتوحتين طول الطريق ليلتقط الصور عبر شريط الأحداث وهو يضم ملايين الزاحفين نحو الآلاء المقدسة.. لم تتح للصغير أحمد مثل هذه الفرصة فلما سنحت له أراد احتواءها بكلّ ماله من قوة وعزم. بدأ ضياء النهار يختفي رويداً رويداً والليل يسدل ستاره شيئاً فشيئاً بمشيئة الله تعالى وما تزال الجموع تحث الخطى فيطفئ لهب هتافها برودة الجو ويخمد قرص شتائها حماس الناس وشديد إصرارهم على المسير.. وعينا أحمد الناعستان ما زالتا متيقظة تأبى أن تستسلم للنوم.. وبين غمرة الجموع وحركة أياديهم على الصدور أحس أحمد بارتجافة في جسده وارتعاشة في أوصال جسمه وشعر بأن هنالك شيئاً يدبّ في ثناياه لا يعرف سرّه إلّا أنه كان يمده بوضوح الرؤيا والفكر. تملّك ذلك الشعور جوارح أحمد ومس شغاف روحه البريئة فسرعان ما بدد البرد وقتل النعاس بسرعة فإذا بمخيلته تسرح بعيداً وتنتقل إلى أجواء الأسرة فتذكر وجه أمّه الطيب وحجرها الدافئ ونظراتها الحنونة.. وتذكر عناده ونزقه وعصيانه لكلماتها، أحس بالرغبة بالبكاء لكنه تماسك وأدار بصره نحو مشاعل النار التي أضاءت الطريق وتناغمت مع هتافات الجموع الغفيرة. وبينما هو في استرجاعات الطفولة العابرة تراءى له من بعد إمارات المنائر وقببها المطهرة فصرخ بشدة: (أبي لقد وصلنا، ها هي المنائر لاحت في الأفق). سمع والده ومن حوله نداءه الطفولي فصاح أحد الشباب بحماس (أفلح من صلى على محمد وآل محمد) فصلى الجميع صلواتهم التامة غير منقوصة أو مقطوعة وتهللت أساريرهم فرحاً واستبشاراً ودلفوا في طريقهم وقلوبهم العاشقة تتلوع شوقاً للقاء المرتقب. ما يزال أحمد يستشعر ما اعتراه من خشوع ورهبه كلّما اقترب من حدود القداسة والبهاء وبينما هو على ذلك الحال إذ صرخ أحدهم من بين الحشود (جواسيس.. خذوا الحذر بين الصفوف خونة). عندها حدثت جلبة شديدة وترنحت الطوابير بشدة والأخبار تنتقل بسرعة البرق فتوجست القلوب من أمر عصيب سوف يلم بالجميع.. فصدح صوت الشاب مرة أخرى وهو يردد.. (لو قطعوا أرجلنا واليدين.. نأتيك زحفاً سيّدي يا حسين). عادت هذه الكلمات الصفوف إلى نظامها وتوحدت المشاعر وتجانست وقد ألهبت ترنيمة الشاب جوارح الوافدين ومنحتهم بدفعات من الإصرار والتحدي والاستمرار حتى الوصول إلى قمم المجد والرفعة. كان لتلك الحشود دوياً هائلاً كالإعصار، دوياً يزلزل عروش الطغاة ويسحق غطرستهم، وبينما كانت الخطوات الثابتة تسجل وقعاً وتتناغم مع هتاف الرجال سرعان ما تملص أحمد عن كتف والده وهرول مخترقاً الجموع المتوسمة بالشوق واللهفة لمرقد أبي الأحرار لم يكن يملك من الوقت الكثير ولم ينفعه صوته ولا حتى صراخه باستقطاب الأنظار نحوه فعرج نحو مركبة كانت واقفة بالقرب منه فاعتلاها بشق الأنفس وتلفظ أنفاسه قبل أن يسمع دوياً هائلاً أحال الأجساد بدقائق إلى جثث وأوصال مقطعة، فلما انجلت الغبرة وكفكفت الأحزان وجدوا جثة أحمد متسمرة وعيناه شاخصة ويداه تحتضنان لافته خضراء كتب بها بلون الدم: كلنا فداء للحسين(عليه السلام).