قَادِمَاتٌ مِن الجَنُوب

هناء الخفاجي
عدد المشاهدات : 190

أمهات وبنات وحفيدات, أخوات وصديقات.. وأخريات! مجتمعات تارة, ومتفرقات تارة أخرى, يتسابقن مع الريح, في مسيرة مارثونية مليونية, لا تحتاج إلى الدخول كتاب الأرقام القياسية؛ لأنها أكبر من كلّ المقاييس, لا تخضع لشروط العمر, أو لفئة, أو طائفة, أو قوميّة, أو مذهب، فيها الوليد، والصغير, والشاب والكهل, والمرأة والرجل, والغني والفقير, والعربي والأعجمي, من كلّ بلاد العالم ومع كلّ الفوارق التي بينهم, يجمعهم عشقٌ أزليّ تغلغل في أعماقهم حدّ النخاع, عشقهم الذي يستمدّون منه الحياة ويوهبون حياتهم لأجله, إنه عشق الإمام الحسين(عليه السلام) ، غير مبالين إن كان مسيرهم بالليل أم بنهار, برمضاء الصيف أم بزمهرير الشتاء, بحرب أم بسلم, شعارهم (لو قطّعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفاً سيدي يا حسين). لفت نظري موكب فيه أطفال ونساء فقط! غير مبالين بالمطر المنهمر فوق رؤوسهم، وهم يحملون رايات كُتب عليها (يازهراء). وقبيل وقت صلاة الظهر نزل الموكب (يازهراء) القادم من البصرة والمؤلف من عشرين امرأة مع أطفالهنّ في أحد المفارز الطبية المرابطة على الطريق المؤدي إلى كربلاء. وكان باستقبالهنّ أربع نساء يعملنَ في المفرزة التي تقوم على خدمة الزائرات طوال أيام أربعينية الإمام الحسين(عليه السلام) ، حيث قمنَ بتجفيف ملابسهنّ المبللة قدر المستطاع، وتدليك أقدامهن، وتنظيف بعض التقرّحات الموجودة من أثر المشي لعدة أيام. وبعد قسط بسيط من الراحة وأداء فريضة الصلاة, جلست النسوة لتناول الطعام, فتجاذبنا معهنّ أطراف الحديث. استقبال السبايا سألت مسؤولة موكب (يا زهراء) عن كيفية جمع هذا العدد من النساء والأطفال والمسير بهم في هذا الجو البارد والممطر من البصرة إلى كربلاء المقدسة؟ أم حسن أكبرهنّ سناً, قالت: منذ عشرين عاماً, كنتُ أقصد زيارة أربعين الإمام الحسين(عليه السلام) مع زوجي، وعندما توفي ذهبتُ مع ولدي حسن الذي أعدمته السلطات في زمن اللانظام حين قطعوا علينا الطريق في إحدى الزيارات وأخذوه مع الشباب (المشاية) إلى السجن، ثم أرسلوهم لنا جثثاً هامدة، ومنذ ذلك اليوم قررتُ أن أواصل المسير إلى أبي الأحرار(عليه السلام) لآخر يوم في حياتي مهما كانت الأحوال الجوية والأمنية. واسترسلتْ: جمعتُ بناتي وحفيداتي وأخواتي وجاراتي وأطفالهنّ في موكب نسوي، وما نقوم به من عمل متواضع هو بمثابة استقبال للسيدة زينب (عليها السلام) ومَن معها من النساء والأطفال السبايا القادمين من الشام إلى كربلاء. لكلّ واحدة قصة نثرتُ أسئلتي بينهنّ لأكتشف أنّ لكلّ واحدة منهنّ قصة، فعندما سُئِلت أم محمد عن سبب مجيئها من أقصى الجنوب على الرغم من أنها مقعدة على كرسي متحرك قالت: إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) ضحّى بنفسه وأهل بيته وأصحابه من أجلنا، فهل بعد ذلك نبخل عليه بشيء؟ حتى ولو كانت أرواحنا, فهي فداء له، وأردفت قائلةً: بعد دخول الجيش الأمريكي إلى بلدنا عام2003م أدى سقوط صاروخ في شارعنا إلى بتر ساقي واستشهاد زوجي وولدي، فقامت أختي وبناتها برعايتي وهنّ مَن يقوم بدفع الكرسي من البصرة إلى كربلاء في كلّ عام. ابتسمت مع دمعة رقراقة في عينيها وأضافت قائلةً: إني أنتظر هذه الأيام حتى ينفد صبري فإنها كلّ حياتي، فعندما أرى الحشود المليونية الزاحفة نحو ملهمها الروحي تزداد ثقتي بربي وبنفسي، وأشعر بأني مازلت على قيد الحياة. (أم علي) روت لنا قصة مختلفة قائلة: بعد عشر سنوات من زواجي لم أُرزق بطفل, مع مراجعاتي الكثيرة للأطباء لكن دون جدوى، وفي إحدى زياراتي للإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) نذرتُ إن رزقني الله طفلاً أن نكون من (المشاية) - زوّار الأربعين - وقد مَنّ الله عليّ بتوأم (علي وفاطمة) وهم يسيرون معي منذ أربع سنين. أمّا أم زهراء فتقول: التحقتُ مع أمي وخالاتي بموكب أم حسن بعد أن تخرجتُ في الكلية، وأنا الآن موظفة ولديّ طفلة عمرها ستة أشهر ولم أقطع المسير على الأقدام مهما حصل، ففي عملنا هذا مواساة للزهراء (عليها السلام) التي ضحّت بأولادها من أجلنا, وما نقوم به شيء قليل لا يكاد يذكر مقابل تضحيات الإمام الحسين(عليه السلام) . الشابة نور وهي طالبة في المرحلة الأخيرة في كلية العلوم, قالت: جئتُ مع أختي الكبرى وصديقتي، وأضافت أنها اتصلت بثلاث من صديقاتها في الكلية - وهنّ من أهالي الناصرية - للالتحاق بموكبهنّ بعد الاتفاق على مبيت موكب أم حسن في بيت إحدى صديقاتهنّ ومواصلة المسير في صباح اليوم التالي. انضمت إلى أم حسين بنت عمها أم فارس من مدينة العمارة ترافقها ابنتها مريم العروس منذ ثلاثة أشهر وجارتها إيمان الحامل في شهرها الرابع، وعندما قلتُ لها ألا تخافين من طول الطريق والسير على الأقدام لمسافات بعيدة ولعدّة أيام قد يسبب إسقاط الجنين؟ قالت لا أخاف عليه من شي فالله(عز وجل) منحني إياه ببركة الإمام الحسين(عليه السلام) الذي ما بخل برضيعه (عبد الله) ذي الأشهر الستة في سبيل الله(سبحانه وتعالى)، وإذا سقط جنيني في طريق الإمام الحسين(عليه السلام) سيكون طيراً في الجنة، ويشفع لي عند الله وهذا الشيء يسعدني كثيراً. مرشدة دينية تكنّى بأم زينب، تدرس العلوم الحوزوية, ترافق موكب أم حسن منذ خمس سنين، وهي تحث النساء على الالتزام بالحجاب, وأوقات الصلاة, والحفاظ على النظافة, وفي أوقات الاستراحة تعطي محاضرات مختصرة حول أحكام العبادات، وتتمنى أن يكون في كلّ المواكب مرشدة دينية؛ لأن الكثير من النساء خصوصاً كبيرات السن يجهلن طريقة الوضوء الصحيحة وأشياء كثيرة تخص العبادات، وكما تقول يجب علينا أن ننصر ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) من خلال السير على نهج أهل البيت(عليهم السلام)والالتزام بمبادئهم وأخلاقهم وعباداتهم. بركات الإمام الحسين(عليه السلام) وعن الخدمات التي قدمت لهنّ في الطريق وكيفية تحملهنّ مع الأطفال قسوة الشتاء، كان جوابهنّ: إنه ببركات الإمام الحسين(عليه السلام) المواكب الحسينية تزداد سنة بعد أخرى والبيوت مفتوحة على طول الطريق وكلّ شي متوفر فيها وموائد الله(عز وجل) عامرة بأصناف الطعام والكل يرحب بالزوّار ويتوسل للمبيت عندهم للتبرك بخدمة زوّار الحسين(عليه السلام) ، والمشي يشعرنا بالدفء كما أشدنَ بدور المفارز الطبية التي وفرت كلّ احتياجاتهنّ من أدوية مجانية، ودور رجال الأمن الذين يسهرون ليل نهار من أجل تأمين الطريق للزائرين. الطريق إلى الجنة بعد الاستراحة قامت أم حسن بتفقد رفيقاتها وحثهنّ على النهوض لمواصلة الطريق إلى الجنة كما تسميه، ودعت أم حسن ورفيقات دربها (الخادمات) مسؤولات المفرزة الطبية للالتحاق بزيارة الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) بعد الانتهاء من واجبهنّ في المفرزة الطبية. في كلّ مرة تثبت المرأة العراقية (الزينبية) جدارتها في تحمل المسؤولية مقتديةً بمولاتها العقيلة زينب (عليها السلام) التي هي مصدر إلهام لجميع النساء، فهنّ يسرنَ في طريق الخلود المنشود متحديات جميع الظروف، وذلك بفضل ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) التي منحت الحرية الحقيقية للعالم وعبارته: (هيهات منّا الذلة) كسرت كلّ أنواع قيود العبودية، ولم تفرق بين رجل وامرأة.