تَائِبٌ عِندَ كَعبَةِ الثَّائِريِن

صادق مهدي حسن/ ناحية الكفل
عدد المشاهدات : 199

قبيل بزوغ الفجر بأعوام.. خرج من أضيق زنزانة في سجنه الداجي هارباً من ثقل الآثام.. وهام على وجهه باحثاً عن ملاذ أمين.. حتى وصل هنا بعد مسير طويل.. فحطّ رحاله منهكاً مكدوداً، ولكن ما لبثَ أن شعر براحة لم يعهدها أو يعتدها.. وشمَّ في الثرى عطراً عبقاً ليس له من مثيل.. لم يعرف أو يدرك بدءاً هو أين.. ولكن آماقه الحيرى ألحتْ عليه بالسؤال بعدما أجبرها شغاف القلب المكلوم على درِّ سواجم الدموع كهاطل الغيث الغزير، لم يدرِ لِمَ البكاء..لِمَ الحنين، وعند التقصي سأل شيخاً بشوق التائقين: • أين أنا.. وما حكاية المكان؟ • مَن أنت يا هذا؟ • “مَن أنا؟!”.. إنه لحديث ذو شجون.. ولكنني (تائب).. فهل للتوبة من سبيل؟! • أيها (التائب): قصة هذي الأرض أشجى وأجل، فقد بكاها سيّدي (بدل الدموع دماً) على امتداد قرون.. “ففي صبيحة يوم أحمر (كثر واتره وقل ناصره).. تصارع ثلة من أصبر الأفذاذ على البأساء من جيش الله مع شرذمة أَضل من الأنعام سبيلاً ممن (شرى آخرته بالثمن الأوكس) من أنصار مَن فسق عن أمر ربّه (أبي مرة الرجيم).. حيث كان للسلاح قعقعة توقر آذان من أبكمهم الشيطان عن نطق ما أكثرهم له كارهون.. فليسوا بسامعين، وللسيوف صليل يأخذ بمجامع الألباب، ولخيول البغي صهيل يملأ أفئدة الأطفال الظّماء بالرعب والذهول.. وسهام الناكثين المارقين ورماحهم تتهاوى بكثافة الجراد في منابت اليُمْنِ والنماء.. ملأى بحقد وغدر قديم وشِجَت عليه أعراق رماتها الأجلاف المستذئبين.. فتتناثر الأجساد الطواهر والأشلاء الزواكي مضرجة بأوسمة الفخر في أرجاء الصحراء لتسقي بجود لا يُضاهى تلك الأرض المجدبة بفيض من دماء الحرية والكرامة.. وعند الظهيرة.. تركع من (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا)(1) وتزول خجلى معلنةً وقت عمود الدين.. سحقاً لمن منع الماء وتعساً!! فتيمموا صعيد الطف طيباً.. قد قامت الصلاآآآآآة.. آخر صلاة للكواكب العطشى بإمامة شمس الثائرين.. تعقيبها عند ضفاف الكوثر (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)(2).. ليستقوا الكأس الأوفى عند المصطفى الأمين.. هنيئاً لهم من ظامئين!.. ويمضي الجميع فدىً لثأر الله والوتر الموتور، حتى الرضيع.. أبى إلا أن يكون من الخالِدين.. وفي الخيام مع الأرامل والأيتام.. وصية بالعيال وبالصبر الجميل، ودمعة عشقٍ تسيل بصمت.. متعزية بعزاء الله، فهي لم تَرَ إلا جميلاً (هكذا تحدت اللبوة آسرها، مستنة بعنفوان أبيها يعسوب الدين).. وداعٌ أخير، وداعاً أُختاه، وداعاً بنيّ أبا الباقر، وداعاً بُنياتي.. سلامي لكلّ المؤمنين.. وبعد أن أفلت النجوم بسيل النجيع.. وترجّل القمر الساقي عند الفرات.. واهباً عينه والكفين.. بقي العطشان الغريب آنِساً بذكر ثقته في كلّ كرب ورجائه عند كلّ شدة.. غير آبه بتلك الجموع أو مكترث بالهيام اللئيم.. يناجي الحبيب ملبياً حتى الرمق الأخير (صبراً على قضائك يا ربّ..).. لقد أخذ بـ (ذي فقاره) منهم كلّ مأخذ.. ولكن لابدَّ للشمس من كسوف لتحفظ الدين، واقتربت عُسلان الفلوات يقدمها عُتُلٌّ أَبقعُ زنيم.. ليحتزَّ (للنبيّ) أوداجاً ويفري له كبداً.. وينفجر الدم العلوي نهراً دافقاً، فتهتزّ الأرض وتربو.. وتُنبتُ شجرةً قدسيةً.. تستمد من شذا الشهادة عطرها.. (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا..)(3).. ثمرتها عزة المتقين. أيها (التائب): ها هنا كربلاء، فاخلع لمبلغها نعليك.. واجثُ بها، وقبّل الأرض إجلالاً وإكباراً، وهذا الحسين.. قتلوهُ لِيَحيا ونَحيَا!.. نعم هنا أنت في كعبة العشق ومحراب الأباة الثائرين، فاستغفر الله عند السفينة مطمئناً.. (..إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(4). عندها.. تنفس التائب الصعداء (..وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ)(5). .................................... (1) (يس:38). (2) (القمر:55). (3) (إبراهيم:25). (4) (الزمر:53). (5) (ص:24).