شَذَراتُ الآيَات_25

أزهار عبد الجبار
عدد المشاهدات : 223

(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ )/ (النور:40). أشرنا في الحلقات السابقة إلى أن سورة النور تضمّنت ثلاثة أمثال، الأول: في الآية (35) حين تحدثت عن نور الإيمان، والمثالان الآخران تضمّنتهما الآيتان (39, 40)، إذ ورد الحديث عن أعمال الكفار، فشبّهت أعمالهم في الآية (39) بالضوء الكاذب الذي يبدو كالماء ولكنه (سراب). أمّا المثال موضع بحثنا الذي تضمّنته الآية (40) فإن الله(عز وجل) لا يعدّ أعمالهم ضوءاً ولو كان كاذباً، بل يعدّها ظلمات، وذلك حين قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ )، ومعناه البحر الواسع والعميق، ولُجيّ مشتقة من (اللّجاج)، وتعني الإلحاح على عمل ما، وتُطلق عادة على الأعمال غير الصحيحة، وكلمة لُجيّ تُطلق على البحر عندما تكون أمواجه متتابعة، وكأن الأمواج تلجّ، والله(عز وجل) شبّه أعمال الكفار بظلمات البحر إذا كان لُجياً، مع علمنا أنّ نور الشمس أقوى أنواع النور، لكنه لا ينفذ في أمواج البحر إذا كان عميقاً وهائجاً إلّا بمقدار معين، فيسود الظلام الدائم في أعماق البحار والمحيطات. أمّا إذا كان الماء هادئاً فهو يعكس نور الشمس بشكل أفضل، ثم أراد القرآن أن يبيّن حالة أخرى تزيد هذه الظلمات، فقال: (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ )، وتعني أن هذه الظلمات المتلاطمة في أمواج البحر أضيف إليها مرور سحاب داكن فوقها، فإن الظلام يزداد عتمة وسواداً بشكل كبير. أمّا عبارة (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ )، تعني أن الظلام في عمق البحر من جهة، وظلمة الأمواج الهائجة من جهة أخرى، وظلمة الغيوم السوداء من جهة ثالثة، هي ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض وفي مثل هذا الظلام لا يمكن رؤية أيّ شيء مهما اقترب منّا، حتى إذا وضع الإنسان الشيء نصب عينيه لَما استطاع مشاهدته؛ لذا قال الله(عز وجل): (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )، وهكذا حال الكفار الذين حُرموا من نور الإيمان، فابتلوا بهذه الظلمات خلافاً للمؤمنين الذين نوّر الله(عز وجل) قلوبهم وطريقهم، فأصبحوا مصداق الآية (نُورٌ عَلَى نُورٍ ). وقال بعض المفسرين: إن هذه الظلمات ثلاثة أقسام قد ابتُلي غير المؤمنين بها، وهي ظلمة العقيدة الباطلة, والقول الخاطئ, والسلوك السيّئ، وبعبارة أخرى: إنّ أعمالهم أساسها الفكري ظلمات، وكذلك أقوالهم التي هي انعكاس لعقائدهم، ثم انسجامها مع أفعالهم الظلمانية. وقال آخرون: إنّ هذه الصفات الثلاث عبارة عن مراحل جهل غير المؤمنين، وأولها: أنهم لا يعلمون، وثانيها: أنهم لا يعلمون بأنهم لا يعلمون، وثالثها: أنهم مع كلّ هذا يتصوّرون أنهم يعلمون، وبهذا يعيشون في جهل مركّب دامس. أمّا بعضهم الآخر فقال: إنّ أساس المعرفة كما يقول القرآن الكريم في ثلاثة أشياء: (القلب, العين, الأذن)، وبالطبع يعني بالقلب العقل كما جاء في الآية (78) من سورة النحل: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ )، لكن الكفار فقدوا بكفرهم نور العقل والسمع والبصر، فصاروا في ظلمات متراكمة. إذن لا يوجد تناقض بين هذه التفاسير الثلاثة، إذ يمكن أن تشملهم هذه الآية جميعاً. الاستنتاج العام من الآيتين (39, 40): إذ شبّهت أعمال غير المؤمنين بنور كاذب كسراب يراه الظّمآن في صحراء جافة وهو لا يروي الظّمآن أبداً، وإنما يزيد في سعيهم إلى الحصول على الماء، فيرهقهم دون نتيجة تذكر، ثم ينتقل القرآن الكريم من الحديث عن هذا النور الكاذب الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطنها المخيف المظلم والموحش، حيث تتعطّل فيه حواس الإنسان، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه ولا الآخرين، وطبيعي أنّ المرء في هذه الظلمات في وحدةٍ مطلقة، وجهل دائم لا يجد طريقه، ولا رفيق سفره، ولا موقفاً له، ولا يملك وسيلة للنجاة؛ لأنه لم يكتسب شيئاً من مصدر النور الذي هو الله (سبحانه وتعالى)، وقد ختم المولى(عز وجل) على قلبه بالجهل والضلال. وإنّ النور مصدر أنواع الحركة والجمال والحياة، عكس الظلام الذي هو مصدر الخوف والموت والعدم والسكون والسكوت والكراهية، وهو توأم الهم والغم، وهكذا وضع الذين افتقدوا نور الإيمان الذي هو لطف من عند الله(عز وجل)، فغرقوا في ظلمات الكفر؛ لذا قال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ). ....................................... تفسير الأمثل: ج11، ص79-80.