سَاقِي العَطَاشَى وحِوَارُ الأَفلَاك
في يوم عاشورائي حزين، استلّت الشمس وخرجت من مخبئها الملكوتي دامية بعد أن انكسرت أشعتها الذهبية، وغاب وهجها السنيّ، وراحت نحو الريح تولول قائلة: أيتها الريح العاتية، هل ستربضين على أرض الطف وتشاهدين ما تخبّئه يد المنون على أشرف بيوت الصالحين؟ هبت النسائم تلذع الوجود، وتفجّرت حركة الريح بصورة مباغتة، وقد انتفضت من سباتها وراحت تدور في أفق الوجود تحاكي الأرض بحزن، وتقول: أجل أيتها الشمس، سأسكن هناك بعد أن أصافح وجوه الأبرار قبيل سقوطهم على رمضاء كربلاء، ولكن عجبي حول الأرض التي ستسقط عليها جثث الأبطال من أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، كيف ستتحمل تلك المصائب الجمة؟ دارت الأرض دورتها، وراحت تكفكف زفراتها الشجيّة على ترابها الثرّ، وهي تعبّئ كامل قواها لاحتضان أجساد الميامين، وهناك ارتسمت النجوم في السماء في لوحة ربانية، حيث اصطفت في لمعانها، وراحت تدنو نحو القمر في طابور طويل، وبخُطى منتظمة، حيث وجّهت إليه شجونها ومخاوفها، قائلةً له: ماذا عساك فاعل أنت أيها القمر المنير في نهارنا الدامي؟ هل ستختبئ خلف السحاب كي لا تبصر مشهد ذبح الأكرمين أم أنك ستغادر الأفق كعادتك غير آبه بما سيقترفه الأوغاد بحق أشرف خلق الله أجمعين؟ تنهّد القمر وتنهنه وخرج من سكونه المعتاد وهو يحدّث النجوم، قائلاً: سأظلّ أشاهد ما سيدور، وأبقى أهفو حول كوكبة النجوم، وأرهف السمع حيث صرخات الأبطال، ووقفات الأحرار، سأرى، كيف تدغدغ الشمس تلك السواعد السمر؟ وكيف تداعب الريح تلك الأبدان الطهر؟ وكيف يرتشف الأديم من عذب الدماء الزواكي؟ ترنّم الوجود أجمع لسحر تلك الملحمة الخالدة الدائمة التي صارع بها جيش النور جيش الظلام، وليقف الكون بكلّ مظاهر الطبيعة على أهبّة الاستعداد لمشاهدة يوم الفتح الأعظم، يوم أن وقف الحق كلّه أمام الباطل كلّه، وقفة التحدي والبطولة الحقة. عندها همست الشمس من جديد، وهي تتوجس قرب ساعات حدوث المعركة، وراحت نحو الريح تخبرها بسرٍّ دفين: أيتها الريح العظيمة، أُوصيك وقت النّزال أن تنثري أنسامك، وتنزلي أجساد الطيبين وقت الاقتتال بمهل ورويّة، احمليهم برفق، وأودعيهم على تراب الأرض الطيبة. شمرت الريح، وقالت بنبرة جدية: سأفعل أيتها الشمس الساطعة، لكني أُوصيك أيضاً بوصية: اخفضي حدة شعاعك اللّهاب ساعة الصفر وابتداء النّزال، لا ترهقي تلك الوجوه المشرقة، أغمريهم بحنانك وبدفئك الأخّاذ. بينما تفاخرت الأرض وهتفت فجأةً، تحدّث طابور الأفلاك: اشهدي يا نجوم، ويا أقمار.. اشهدي يا شمس، ويا رياح.. بان لي عظيم الشرف، فأنا أول من سأحتضنهم، وستختلط دماؤهم الزكيّة بذرات ترابي، فأكون لهم فراشاً ووسادة لثلاثة أيام عصيبة. دارت المعركة واستبسل الأبطال وتخلخل نظام الكون وتلاطمت الأفلاك ونظرت جميعاً إلى الأسفل، وتأسّفت لمّا ارتفع صوت خرير الماء، وبظلّ ذلك الأسف والسكون المطبق علا صوتٌ لرقرقة الماء ناحية نهر الفرات، وراح الخرير يعزف ألحانه على أوتار الشفاه الظامئة، حين راح يصرخ بألم، قائلاً: أنا يا ربّ المسيء! أنا يا ربّ العاصي! أنا يا ربّ المجرم..!! منعت عن ريّ تلك الأبدان الطاهرة والأفواه الزكيّة..!! يا ويلي، كيف سأتحمل جرمي وجريرتي..؟؟ هل أنسى؟ كيف أنسى؟ لن أنسى، ساعة دنو كفي العباس تغترفان من عذب مائي، وكيف كان لهيب لسانه الظامي؟ وكيف استشعر بواعز الأخوة عطش أخيه، فرمى الماء بعد أن تسرّب برد الماء إلى فؤاده الذاوي؟ آه ..آه .. كم آه أنتحب وأبكي، فكلّكم يا أصدقائي لكم العذر إلا أنا..!! وسأظل أروي للكون حكايتي وفجيعتي، حيث كنت ومازلت أروي حتى الدواب والمواشي، لكني في ذلك اليوم العصيب منعت عن سقي ساقي عَطاشى كربلاء، ولو غرفة من عذب مائي..!!