شَذَراتُ الآيَات...29

أزهار عبد الجبار
عدد المشاهدات : 166

(لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)/ (46-50) بخصوص الآية (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) يقصد بها آية النور فما تلاها لكن في الحقيقة يريد الله (عزّ وجل)أن يقول: إننا نلفت انتباهكم إلى ما سبق قوله. ولكي نعرف أن مهمة القرآن هي التوعية والهداية قال (عزّ وجل): (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لكن الذي تريد الآية تسليط الضوء عليه هو الطريق, فالإنسان مخلوق سائر متحرك على طريق، وينبغي عليه بلوغ الغاية المطلوبة، وهذه الآيات النازلة هدفها إنارة الطريق أمامه. ثم يؤكد (سبحانه وتعالى) بقوله: (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وهذا يعني أن لا هداية بلا مشيئة، ولكن قد يقول قائل: إن مشيئة الله تعالى تسير وفق نظام معين قد يشمل أشخاصاً من دون غيرهم، نقول: لقد جاء في الآية (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا)/ (البقرة:26) ولكن كيف يهدي الله تعالى بالقرآن جماعة ويضل به أخرى، أليس القرآن كتاب هداية وليس كتاب ظلالة؟ فيجيب تعالى على هذا السؤال بقوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)/ (البقرة:26)، وقد تكرر هذا المعني في آيات عديدة.(1) ثم استنكرت الآية الثانية وذمّت مجموعة من المنافقين الذين يدّعون الإيمان في الوقت الذي خلت فيه قلوبهم من نور الله تعالى فقالت: (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إنه إيمان يقولونه بألسنتهم ولا أثر له في أعمالهم. وفي هذه الآية دلالة على أن القول المجرد لا يكون إيماناً؛ إذ لو كان كذلك لما صح النفي بعد الإثبات..(2) لقد نزلت هذه الآيات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة، فدعاه اليهودي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشراف اليهودي. حتى أن بعض الروايات ذكرت أن المنافق قال صراحة: (يحتمل أن لا يعدل محمد فينا).(3) ثم ذكرت الآية دليلاً واضحاً على عدم إيمانهم فقالت: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ). والجدير بالذكر أن الآية الأولى تحدثت عن الدعوة إلى الله ورسوله، أمّا العبارة التالية أي كلمة (ليحكم) فهي جاءت مفردة، وهي تشير إلى تحكيم الرسول (صلى الله عليه وآله) لوحده؛ وذلك لأن تحكيمه ليس منفصلاً عن تحكيم الله (عزّ وجل) حيث إن كِلا الحكمين في الحقيقة واحد، ولتأكيد عبادة هذه المجموعة وفضح شركهم تصرّح الآية (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)/ (النور:49). إنّ الضمير المتصل الهاء في (إليه) يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أو إلى تحكيمه، وكذلك لابدّ من الالتفات إلى أن الآية نسبت التخلّف والإعراض عن هذا الحكم إلى مجموعة من المنافقين فقط؛ وذلك لأن الفئات الأخرى لم تكن بهذه الدرجة من الجرأة وعدم الحياء؛ لأن للنفاق مراتب أيضاً كمراتب الإيمان المختلفة. ثم بيّنت الآية الأخرى في ثلاث جمل الدوافع الأساسية في عدم التسليم إزاء تحكيم الرسول (صلى الله عليه وآله) فقالت أولاً: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، وهذه صفة من صفات المنافقين فهم يتظاهرون بالإيمان لكنهم لا يسلمون بحكم الله ورسوله ولا يستجيبون له أما بسبب انحرافهم قلبياً عن التوحيد أو الشك والتردّد فيه. وقالت ثانياً: (أَمِ ارْتَابُوا)، وطبيعي إن الذي يتردد في عقيدته لن يستسلم لهذا أبداً. وقالت ثالثاً: (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الوقت الذي يعدّ هذا تناقضاً صريحاً, إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد (صلى الله عليه وآله) ويعدّ حكمه حكم الله تعالى أن ينسب الظلم إلى رسوله (صلى الله عليه وآله)! وهل يمكن أن يظلم الله أحداً؟! أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر، وإن الله (عزّ وجل) مقدّس عن كلّ هذه الصفات بل أولئك هم الظالمون, فهم لا يقتنعون بحقهم, وهم يعلمون أن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) لا يجحف بحق أحد ولهذا لا يسلمون بحكمه..(4) ............................... (1) تفسير سورة النور: ص160-161. (2) مجمع البيان في تفسير القرآن: ج7، ص263. (3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج11، ص90. (4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج11، ص91-92.