رياض الزهراء العدد 92 منكم وإليكم
سِياسةُ السّيّدةِ الزَّهرَاء (عليها السلام)
إن ما تكل عنه ألسن فحول الفصحاء، وتقف دون بلوغ غايته الأفكار وفطاحل البلغاء، ويخشى عن خوض لجج معانيه كلّ مصقع من المتكلّمين والخطباء ما خطبته الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء(عليها السلام) بعد ظلم ظالميها وغصب غاصبيها ما أقطعها (صلى الله عليه وآله) من فدك، فقد ألقت عليهم الحجّة، وأبانت لهم المحجّة، وألقت معاذيرها يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها، فما رعوها حقّها ولا أصدقوها بيّنتها، بل أنكروا وراثتها وأكذبوا شهادتها وهي ابنة الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله)، فصاروا إلى غضبها أقرب منهم إلى رضاها، وقد سمعوا أباها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول: "إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها"(1)، ولكن ختم الله على قلوب القوم وأسماعهم وغشي على أبصارهم وأفئدتهم، فلما وصل الأمر الزبى، خرجت إليهم داعية إلى حقها، فأقرعت لهم العصا، وأبانت عمّا في قلوبهم من الخنا، خطبتهم خطبتها الغرّاء، فلما رأت تقاعسهم عن نصرتها، وأحجامهم عن معاضدتها شكت أمرها وأمرهم إلى ربّها، وجعلته الحكم بينهم وبينها. دخلت مولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام) مع جماعة من النساء إلى المسجد مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هنا نسأل سؤالاً: لماذا اختارت البضعة الطاهرة المسجد من دون غيره؟ الجواب: اختارت المسجد؛ لأنه هو المركز الإسلامي يوم ذاك، ومجمع المسلمين، كما أنها اختارت الوقت الذي يكون المسجد فيه غاصاً بالناس من المهاجرين والأنصار. مسألة: هل يستحب طرح القضايا في المسجد؟(2) الجواب: نعم يستحب طرح القضايا الهامّة في المسجد؛ لما فيه من إعطاء المحوريّة للمسجد في حياة الناس، ولأنه اقرب إلى عناية الله تعالى ولطفه، ولأنه يحمل روحانيّة وتذكيراً بالخالق المتعالي وهو أدعى لقبول الحق والبعد عن الباطل، وكذلك يستحّب طرح القضايا المهمّة أمام الناس، فإن فيه إرشاداً للجاهل وتنبيهاً للغافل، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وقد قامت(عليها السلام) بطرح ظلامتها في المسجد وأمام الناس. وحينما دخلت(عليها السلام) (نيطت دونها ملاءة).. ومعنى نيطت أي علّقت، أي ضربوا بينها وبين القوم ستراً وحجاباً فجلست(عليها السلام) في المكان المخصّص لها والمعّد خلف الستار، ولعلّ دخولها يوم ذاك كان لأول مرّة بعد وفاة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهنا عندما جلست(عليها السلام) أنّت أنّة، فلا عجب أن هاجت بها الأحزان. وهذه الأنّة لا نعلم ما حوت من معانٍ حتى أجهش القوم بالبكاء؟! هل سمعوا صوتها فتذكروا صوت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ؟ هل تذكروا ما أوصاهم الرسول بهذه البضعة الطاهرة التي أخذ حقها وجاءت اليوم تدافع عنه وتطالب به؟! هل كانت دموع الندم لتخاذلهم مع بيت النبوة؟! وهذه أنّة واحدة أبكت العيون فارتفعت أصواتهم من التوجع، فلماذا كانوا يتأوهون ويشكون من بكائها على والدها؟! ولماذا منعوها من البكاء وأخرجوها خارج المدينة؟! مسألة: هل من الضروري فضح السلطات والطغاة؟(3) الجواب: نعم من الضروري فضح السلطات الجائرة ورجالاتها وتربية الناس على ذلك، وهو مصداق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "..إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(4)، ويجوز المطالبة بالحقّ ماديّاً كان أو معنويّاً. ولا يخفى أن السّيّدة الزهراء(عليها السلام) كانت تهدف من موقفها وخطبتها - بالدرجة الأولى - هدفين هما أهم من الجانب المادي: الأول: كشف القناع عن الحقيقة وإثبات أن الحق في أمر الخلافة مع الإمام عليّ (عليه السلام) عبر الاستدلال والمطالبة بحقه. والثاني: نتائج معنويّة وتاريخيّة عبر فضح الغاصبين إلى يوم القيامة، ورسم المقياس لتمييز الحق عن الباطل، وتربية الأمّة على التصدّي للجور، وعدم السكوت عن الحقّ، والتضحية بكلّ غالٍ ونفيس في سبيل ذلك. ........................................ (1)الأمالي للمفيد: ج1، ص57. (2) من فقه الزهراء: المجلد الثاني، ص87. (3) من فقه الزهراء: المجلد الثاني، ص68. (4) ميزان الحكمة: ج1، ص656.