بين النور والظلامِ
بعد أن كان يشعّ النور من قلبه، وخطاه مستقيمة، وروحه تعوم في بحور السكينة والسلام، زلّت قدمه، فاظلمّ طريقه، ووقعت أقدامه في شباك كانت تُحاك له منذ زمن طويل، فتبسّم العدو،ّ ذلك المشيج بالشرّ، فكانت تلك لحظة بعثرت ظنونه، وفكّكت أمنه، وهدّمت ما كان قد بذل عمره في إقامته، وقف للحظة كأنّ النار في ظهره، فاستغلّ عدوّه تلك الفرصة التي كان ينتظرها طويلًا، فوضع يده على كتفه، وأخبره بأنّ الأمر لا يستحقّ كلّ هذا الندم، ولا تستمع لكلمات ذلك الذي يلومكَ ويعقّد عليكَ الأمر، بل تابعْ السير، وسأكون معكَ وأمامكَ، أمهّد لكَ الطريق، ولا تخفْ أبدًا، فهناك أشياء رائعة تنتظركَ، اتبعني ولا تخفْ. حُجب عقله، ورضخ لأمر ذلك المُضلّ، فكانت خطواته تلك أشبه بشرارة في كومة قشّ، سرعان ما احترق كلّ شيء أمام عينيه وتلاشى. تابع السير في درب لم يسلكه من قبل، ولا يعرف ماذا سيجد في نهايته، لم يرَ غير السراب، كان يشعر بوجود الأشياء في يده، لكنّه لا يراها، فمرّة يواسي نفسه بأنّ ذاك الشخص قد يكون محقًّا، ومرّة يؤلمه صدره من حرارة النيران التي تكاد تلتهم أحشاءه، كأنّ خيطًا يشدّه من خلفه، يسحبه إلى الموقع الذي كان فيه، لكنّ أقدامه ما تزال عالقة في الشباك. لا تبدو الأشياء مريحة على الرغم من جمالها، فيحدّث نفسه قائلًا: ليس هذا ما أريده، هذه الأشياء عاجزة عن إسعادي، هناك نقص كبير بداخلي، في قلبي شعور أشبه بشعور الأرض بعد الخسوف. جلس في إحدى الليالي يفكّر فيما كان وسيكون، يحدّث نفسه: لقد خسرتُه، كان معي دائمًا، أنا الذي تركتُه في منتصف الطريق وسلكتُ طريقًا مغايرًا لطريقه، هو مرادي والوجهة التي تريحني وتغمرني بالرضا، ولا أحد غيره، لكنّني الآن لستُ راضيًا، ولا شيء أمامي غير البؤس، هذا الدرب مظلم لأنّه ليس فيه، فكلّ الأنوار عاجزة عن ردع الظلام، وإخفاء السواد، وإبعاد الوحشة. حاول أن يغفو في تلك الليلة ليهرب من وجعه، فغلبه النعاس ونام أخيرًا. استيقظ بعدها مذعورًا ويده ممتدّة كأنّه يحاول الإمساك بشيء ما، كان حلمًا، لكنّه شعر بألم في وجهه، كأنّه تعرّض لصفعة من كفّ صلبة استفاق على أثرها. فقال في نفسه: كأنّ شخصًا ما يحاول مساعدتي، شخصًا مدّ يده لي في منامي كان يريد أن يخلّصني، فالأمواج حينها تتلاطم وأنا فيها والصخور تحيط بي، أمّا يده تلك فقد استشعرتُ حنانها ورقّتها، يد اعتادت أن تمتدّ إلى التائهين والضالّين. أزاحت تلك الرؤيا جزءًا من همّه وحزنه، فقام مسرعًا وبدّل ثوبه الضالّ بثوب الرشد والهداية، واستقبل محبوبه الذي كان في كلّ الجهات، واستنشق عبق الصلاح، فتحرّرت أقدامه، واختفى صوت عدوّه اللدود، وخمدت نيرانه المتسعرة، وعاد إليه شعوره القديم، فنظر والندم يهطل من عينيه قائلًا: أبقني بقربكَ يا مولاي، فلا يصحّ أن يترك الحبيب أحبابه في الظلام وكلّ النور في يديه، أمّا الذين تركوك في منتصف الطريق، فلن يصلوا، لن يصلوا أبدًا.