سجدة الملائكة
أمر الله تعالى ملائكته في مقام القدس بالسجود لآدم (عليه السلام)، وكان إبليس مع الملائكة في المقام نفسه وإن لم يكن من الملائكة، وقد توجه الأمر إليهم جميعا بالسجود لآدم فامتثل الملائكة كلهم أجمعون، وامتنع إبليس عن السجود وأبى أن يكون مع الساجدين، فهل كان أمر الله تعالى بالسجود لآدم (عليه السلام) منافيا لتوحيده في العبادة؟ فالسجود بمعناه العام هو مطلق الخضوع والتذلل بدرجة زائدة على الخضوع والتذلل في الركوع، فما كانت حقيقة سجود الملائكة لآدم (عليه السلام)؟ وهل كان إبليس أكثر إيمانا بالله تعالى من الملائكة بامتناعه عن السجود؟ إن مجرد سجود الملائكة لآدم (عليه السلام) تعظيما وتشريفا له، وطاعة منهم لأمر ربهم لا يعد عبادة؛ لأن مجرد الخضوع والتذلل لوحده لا يصدق عليه عبادة لغير الله تعالى، فإن حقيقة العبادة على ما يستفاد من القرآن الكريم هي الخضوع والتذلل لفظا أو عملا مع الاعتقاد بألوهية المخضوع له، فمإذا لم ينشأ الخضوع من هذا الاعتقاد لا يكون عبادة، ويدل على ذلك الآيات التي تأمر بعبادة الله تعالى وتنهى عن عبادة غيره معللة أنه لا إله إلا الله، كقوله سبحانه: (ويا قوْم اعْبدوا الله ما لكم منْ إلٰه غيْره) (هود:84). لقد كان سجود الملائكة لآدم (عليه السلام) استجابة لأمر الله وطاعة منهم له تعالى، ولم يكن سجودهم سجود عبادة، كالسجود الذي يؤديه العبد لربه، إنما كان تعظيما لآدم (عليه السلام) من منطلق أن الله تعالى جعله خليفة له، ولما أودع في صلبه من حججه المعصومين (عليهم السلام)، إضافة إلى أن الملائكة كائنات مجردة، تعيش في عالم مجرد عن المادة وتبعاتها؛ لذا لا يمكن القول بأن سجدتهم تناظر سجدة البشر في العالم المادي التي تؤدى عن طريق وضع الجبهة على الأرض كي يقال إنها تتعارض مع التوحيد في العبادة، بل كانت سجدتهم طاعة محضة لله تعالى، وتنفيذا لأوامره بكل إرادة وإخلاص. ولم يكن إبليس في امتناعه عن السجود أكثر طاعة وتوحيدا من الملائكة، إنما يحكي لنا القرآن الكريم سبب امتناعه عن السجود ومعصيته لله تعالى بقوله: (أنا خيْر منْه خلقْتني من نار وخلقْته من طين) (الأعراف:12)، فكان تكبره عن السجود لآدم (عليه السلام) حسدا له، إذ جعل الله صلب آدم مستودعا لأرواح حجج الله تعالى دون صلب إبليس، فكان ذلك سببا لكفره ولعنه وطرده من مقام القدس. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس): (تعلق إبليس بأمر النار والطين، وأهمل أمر تكبره على ربه، ولم يعتن بما سئل عنه، أي السبب في تكبره على ربه، إذ لم يأتمر بأمره، وأثبت لنفسه استقلال الإنية قبال الإنية الإلهية التي قهرت كل شيء، فاستدعاه ذلك إلى نسيان كبرياء الله تعالى، ووجد نفسه مثل ربه وأن له استقلالا كاستقلاله)(1)، ليس لمخلوق أن يعتمد على ذاته ويقول: أنا قبال الإنية الإلهية التي عنت لها الوجود، وخضعت لها الرقاب، وخشعت لها الأصوات، وذل لها كل شيء. ........................ (1) تفسير الميزان: ج ٨ ، ص٢٦.