ابنتي والاستشارة
بنيتي الحبيبة: عندما أتصل بك، وأنتظر خلف الهاتف دفء صوتك، وأترقب عزف حروفك وأنت تتكلمين معي، وتقصين علي تفاصيل يومك، فأكون أنا مع كل رنة أدعو لك، وأتأهب لاستقبال كلماتك، وأتمتم متوسلة بخالقك في أن يرعاك، ويهديك إذا اشتكلت عليك الأمور لأهداها، ويثبت على طريق الفلاح خطواتك، ففي رحلة حياتك ستواجهك الكثير من الأمور التي تطالبك باتخاذ القرار، بعضها قد يكون واضحا سرعان ما تهتدين إليه، والآخر يكون شائكا متشعبا يصعب عليك معرفة الموقف المناسب له، وهنا أنت بحاجة إلى مستشارة أمينة، خبيرة متمكنة، تبينين لها ما مررت به، وتسألينها كيفية التعامل معه، وقد يروق لك استشارة أكثر من شخصية في الموضوع ذاته؛ لامتلاكهم الكفاءة والقدرة على التفكير السليم، ومدك بالرأي الصائب والقرار الحكيم. فأنت بالاستشارة إنما تفكرين بأكثر من عقل، وتجرين عملية بحث في مناجم التجارب، وينابيع الخبرات؛ لتستخرجي كنوز الآراء السديدة، وتنتفعي بها في بناء حياتك السعيدة. فالاستشارة سبيل الوصول إلى الصدارة؛ لذلك حث الإسلام أتباعه على الاهتمام بها، واللجوء إليها؛ لما تفتحه لصاحبها من أبواب تنجيه من مغبة الندم، وتجنبه ما يسببه تفرده بالرأي بدون امتلاك المعرفة الكافية من خسارة وألم، فعقولنا مهما كانت كبيرة في أفقها وتجاربها، فإنها لن تستطيع الإحاطة بكل ما هو موجود وصحيح، فتأتي هنا المشورة؛ لتبصرنا بمواقع الصواب ومكامن الخطأ بشكله الخفي والصريح، فنتحرك على بينة من أمرنا، ورؤية واضحة عن أبرز ما سيترتب على قراراتنا في مستقبل أيامنا. ولكن يا عزيزة أمك لابد من أن ننتبه إلى أمر مهم، مفاده: أن المشورة لا تعني الرجوع إلى أي كان، بل لابد من أن يكون المستشار من أهل التقوى والإيمان، يتحلى بالعقل، ويزدان بالحكمة، ويحسن تدبير الأمور، ويتمكن من طرح كل الآراء واستخلاص الأصوب منها، مثلما لابد من أن يكون ناصحا مخلصا، يريد مصلحتك، ويبحث عن أقرب الآراء لتحقيق نفعك وسعادتك في دنياك وآخرتك، وهذا هو الذي يرشدنا إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: "شاور في حديثك الذين يخافون الله"(1)، فالذي يخاف الله تعالى يكون أمينا في كلامه، ورعا في طرح آرائه، إن علم تكلم، وإن لم يعلم اعتذر بأدب وأرشدك إلى من يمكنه مساعدتك. فاحذري يا نور بصري ممن يتقمصون دور أهل المشورة، ويطلقون العنان لألسنتهم من دون أدنى تأمل للفكرة، فالخسارة حتمية بعد استشارة هؤلاء، والشقاء أكيد إن عملت بما نطقوا به من الآراء، فعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "جهل المشير هلاك المستشير"(2). ............................ (1) ميزان الحكمة: ج٢، ص ١٥٢٦. (2) عيون الحكم والمواعظ: ص٢٢٣.