رياض الزهراء العدد 208 أنوار قرآنية
تجلي القرآن الكريم في الخطاب الحسيني يوم عاشوراء
للقرآن الكريم في الخطاب الحسيني يوم عاشوراء مساحة كبيرة في الحجاج والاستدلال والهدفية، فأساس الخطاب الحسيني يوم عاشوراء هو المرتكزات القرآنية التي يعتمدها المرء في الحياة الدنيا ليفوز في الدارين، ولا عجب في ذلك، فالإمام الحسين (عليه السلام) هو عدل القرآن الكريم، وهو القرآن الناطق، فأولى الآيات القرآنية التي صدح بها أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء كانت في مطلع خطبته الأولى، حيث قال: "وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم، فأجمعوٓا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم ٱقضوٓا إلى ولا تنظرون(1)، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين(2)"(3)، ففي بداية الخطبة الأولى كان الإمام (عليه السلام) واعظًا لأعدائه، فوجب أن يكون الخطاب والحجاج بلغة القوة والثقة بالمسيرة والقيام على الظلم، وتحدي كل الظروف في سبيل الحق، فقال لهم: اعزموا على ما تريدون في أمري ولا تنظروني؛ لأنه (عليه السلام) في ولاية الله تعالى الذي يتولى الصالحين، ففريق الإصلاح واضح، وفريق الهدم والتخريب واضح أيضًا، فالموقف يحتاج إلى الثقة بالله تعالى، والتوكل عليه، والصدق في الدعوة؛ كي يؤثر الخطاب في نفوس سامعيه من الأعداء. ثم قوله (عليه السلام) في الخطبة ذاتها: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)(البقرة:197)، هنا يعظ الإمام (عليه السلام) الأعداء، ويذكرهم بضرورة التزود بخير الزاد في الدنيا والآخرة، ألا وهو التقوى، ثم الاحتجاج بقوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون)(آل عمران:200)، يبرز الإمام (عليه السلام) أهمية التقوى قرآنيًا؛ لعلهم يصلون إلى مرحلة الفلاح، ويعودون عن غيهم وضلالهم وظلمهم. أما في الخطبة الثانية، فقد قال الإمام الحسين (عليه السلام): "(إنا لله وإنا إليه راجعون)(البقرة:156)، هؤلاء قوم (كفروا بعد إيمانهم)(آل عمران:86) (فبعدًا للقوم ٱلظٰلمين)(المؤمنون:٤١)(4)، فجاءت هذه الآيات القرآنية في نهاية الخطبة مع كلمات اللوم والتقريع لسوء ما اقترفه الأعداء إلى درجة استحوذ الشيطان عليهم وصدهم عن اتباع الحق، فاسترجع الإمام (عليه السلام)؛ لأنهم قوم كفروا بعد إيمانهم، وانتهجوا الظلم والعدوان، فنرى قوة الحجاج القرآني وصل إلى ذروته، حيث إن (الحسين ـ عليه السلام ـ ركب فرسه، وأخذ مصحفًا ونشره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال: يا قوم، إن بيني وبينكم كتاب الله وسنة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إلي ولا تنظرون)(يونس:٧١) (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها إن ربي علىٰ صراطٍ مستقيمٍ)(هود:56)(5)، إن نشر الإمام الحسين (عليه السلام) للقرآن أمام القوم وجعله حكمًا بينه وبينهم، إضافة إلى الاحتجاج بسنة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعني قوة الحجة، واليقين بأن الحق معه، فهو ابن القرآن وابن السنة النبوية الشريفة وهو من يجسدهما على الأرض، وهو بذلك يذكرهم بالشريعة الإسلامية وبأحقية قضيته النابعة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، مثلما تحداهم للمرة الثانية بالآية نفسها في خطبته الأولى بأن يجمعوا أمرهم وشركاءهم في القضاء عليه وعلى نهضته. وبعد استشهاد صحبه الكرام واحدًا تلو الآخر، وصل الأمر إلى مسلم بن عوسجة، فقال له (عليه السلام): "رحمك الله يا مسلم" (6) ( فمنهم من قضىٰ نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا) (الأحزاب:23) ، هنا التأكيد القرآني على أهمية ذلك الرجل العظيم، وإلحاقه بالمؤمنين من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فـ(مسلم) وبقية أصحابه على طريق صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الشهداء الأوائل، وكذلك من جاء بعدهم في تلك المسيرة؛ لأنهم على النهج القويم ذاته. ثم إن عمر بن سعد وجه عمرو بن سعيد في جماعة من الرماة، فرموا أصحاب الحسين (عليه السلام)، وعقروا خيولهم، ولم يبق مع الحسين (عليه السلام) فارس إلا الضحاك بن عبد الله المشرقي، يقول: لما رأيت خيل أصحابنا تعقر، أقبلت بفرسي وأدخلتها فسطاطًا لأصحابنا، واقتتلوا أشد القتال، وكان كل من أراد الخروج ودع الحسين (عليه السلام) بقوله: السلام عليك يا بن رسول الله، فيجيبه الحسين (عليه السلام): "وعليك السلام، ونحن خلفك"، ثم يقرأ: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا)(الأحزاب:٢٣) ، وترديد الآية ذاتها بعد وداع الإمام (عليه السلام) لأصحابه الكرام الواحد تلو الآخر لهو تأكيد منه (عليه السلام) على أنهم جميعهم على صدق العهد مع الله والثبات عليه. وفي أثناء قتال علي الأكبر (عليه السلام) رفع الإمام (عليه السلام) شيبته المقدسة نحو السماء وقال: "اللهم اشهد على هؤلاء، فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمد خلقًا، وخلقًا، ومنطقًا، وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه، اللهم فامنعهم بركات الأرض، وفرقهم تفريقًا، ومزقهم تمزيقًا، واجعلهم طرائق قددًا، ولا ترض الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا يقاتلونا"، ثم تلا قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريةً بعضها من بعضٍ والله سميعٌ عليمٌ)(آل عمران:٣٣-٣٤)(7)" يتضح هنا توجع الإمام (عليه السلام) على فلذة كبده شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومنزلته عند الله، ليس لأنه سليل النبوة والإمامة فحسب، بل لصفات فيه فريدة أهلته لهذه المكانة الرفيعة. وبلحاظ الاستقصاء السريع للآيات القرآنية التي جاءت في الخطاب الحسيني يوم عاشوراء، نرى أن آيات القرآن الكريم مع الوعظ والإرشاد بالأساليب البيانية والبلاغية جميعها، قد أعطت الخطاب الحسيني يوم عاشوراء ذلك الوهج الساطع الذي يؤثر في نفس كل طالب للحرية، ومحارب للظلم على مر العصور؛ ليكون منهجًا وأسلوب حياة حتى قيام القائم (عجل الله فرجه). ....................... (1) يونس:71. (2) الأعراف:١٩٦. (3) مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم: ص٢٥٤. (4) العوالم، الامام الحسين(عليه السلام)_ الشيخ عبد الله البحراني_الصفحة 250 (5) معالم المدرستين: ج٣، ص١٠٠. (6) العوالم، الامام الحسين(عليه السلام)_ الشيخ عبد الله البحراني_الصفحة 263 (7) المصدر نفسه: ص٢٩٧-٢٩٨.