دور التشابيه في تأصيل قضية عاشوراء في نفوس الأطفال

ولاء عطشان الموسوي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 174

ما يلتقطه الطفل من صور وأحداث في طفولته، يشكل شخصيته ويبقى راسخًا في ذهنه، يستذكره كل حين، وهذا ما نلاحظه عند تذكره لأفلام الكارتون والصور التي التقطها عقله في صغره وكبرت معه، وعندما يشاهد عروضًا مسرحية، فإنه يتفاعل معها وينشد إليها، وتسجل ذاكرته الأحداث والقصص التي نقلت في العرض، فيستذكرها كل حين. وفي مجال المسرح الحسيني، وما جرى من وقائع في كربلاء والذي نقله بعضهم في عروض بسيطة في ضمن المجالس الحسينية، نجد الأثر واضحًا في سرد قصص عاشوراء على لسان الطفل مما شاهده والتقطه من هذه العروض المبسطة والتي سميت بـ(التشابيه). استطلعنا آراء المعنيين بهذا المجال، فأوضح الدكتور عمار الياسري/ ناقد وأكاديمي قائلًا: منذ الصيرورة الأولى لنظرية الدراما في زمن الإغريق، ذهب الفيلسوف الإغريقي (أرسطو) إلى أن الهدف الأسمى للدراما هو التطهير، أي تطهير النفس من الأدران التي تلحق بها بسبب الرغبات الدنيوية، ومع نشأة الطقوس الدينية ارتبطت الأشكال الأدائية للجماهير مع فلسفة المسرح مبنىً ومعنىً، فالموضوعات التي تحاكي المأساة الحسينية تحمل في طياتها المفاهيم السامية للمسرح ذاتها، إذ إن الملحمة الحسينية شكلت ظاهرة توعوية تربوية ضد الأدران الدنيوية نحو المثل العليا، فهي نهضة ضد الظلم، والطغيان، والفساد، والغش والخداع، وحينما تحاكي طقوس التشابيه الواقعة الحسينية، فهي هنا حققت أمرين، الأول تشذيب السلوكيات، والثاني ذكر مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام)، وبما أن المسرح يعد من وسائل التواصل الجماهيري التي تشكل منظومة تربوية جمالية هادفة تسعى إلى التطهير؛ لذا شكل التماهي بينه وبين قضية عاشوراء أسمى وسيلة لتأصيل القضية في نفوس الجماهير، لاسيما الأطفال منهم، فالطفل صفحة بيضاء لابد من ملئها بقيم الشرف، والفضيلة، والعقيدة الصحيحة، وما واقعة عاشوراء إلا المثال الأجمل للتهذيب والتشذيب، فالمشاركة والمشاهدة لطقوس التشابيه والمسرح الحسيني يكون منظومة بنيوية كبيرة لهندسة السلوك الإيجابي للطفل نحو عالم المثل العليا التي تعزز من مكانته الاجتماعية والروحية السليمة، ونبذ الفلسفات المدمرة، الوافدة منها والمحلية. وقالت الأستاذة تسنيم الحبيب/ أديبة وكاتبة مسرحية من الكويت: لا يخفى على أحد ما للصورة والسلوك من أثر كبير في إيصال الكثير من الرسائل المركبة والبسيطة إلى دماغ الطفل، مما يشكل لديه مستقبلًا الفكر المتمثل بالمفاهيم، والهوية، والخلق والسلوك. إن الطفل يبرع في محاكاة ما يعاينه وإن كان الأمر كبيرًا بالنسبة إلى استيعابه بشكل مطلق، غير أن تلك المعاينات المبكرة، ستكون بمنزلة الأساس المعرفي الذي سيعود إليه على امتداد أعوام وعيه، فتصير تلك المعاينات كالذخيرة التي تستمر بإعطاء ذاتها مرة بعد مرة، والأئمة (صلوات الله عليهم) قد أوصوا المربين باعتماد تشكيل حالة الاعتياد لدى الطفل، ويتجلى ذلك عبر وصاياهم في الموارد الآتية: - تعويد الطفل على أداء الصلاة. - تعويده على إتيان تسبيح الزهراء (عليها السلام) بعد الصلاة. - تعويده على القيام بالسلوكيات الصالحة. فصار الطفل ينشأ بين العادة، والتهيئة، والحوار الصريح والمبطن، مما شكل لديه مع المحاكاة هويته. وربما يسمى هذا الأسلوب بـ(النمط)، إذ أثبتت الدراسات أن الإنسان يميل للنمط بشكل عام ويطمئن إليه؛ لذا صار من المؤكد حضور الطفل في مراسم إحياء المناسبات الدينية كلها، والشعائر الإسلامية من المؤثرات الراسخة في تنشئته، والمشكلة لشخصيته، والداعمة لكيانه، بل هي التي تدفعه نحو المحاكاة وتتبع الأسئلة أيضًا كي يفهم الحادثة بشكل مفصل، ونجد ذلك جليًا بعد معاينة الطفل للتشابيه العاشورائية، إذ تبدأ أولًا بمس شعوره، وتحصد تعاطفه، مما يشكل لديه حالة حب قصوى لشخصيات كربلاء المقدسة المضحية والأبية، الساعية إلى إعلاء كلمة الله تعالى، والتي تمرر إلى ذهن الطفل عقيدة الإمامة وتكليف الفرد في طاعة الله وطاعة حجته. وقالت الخطيبة رؤى العارضي: إن الطفل في مراحله الأولى يتفاعل مع ما حوله من أحداث ومواقف، يسقطها على واقعه عن طريق الحركات والإيماءات، فيؤدي دوره بما ينسجم وقوة الحدث، وبما أن واقعة الطف التي تمثل مشاهد تراجيدية مؤلمة وحزينة، فإن مشاهد هذه الواقعة تتجسد وتترسخ في نفوس الأطفال؛ لما لها من أثر عظيم وواقع مؤلم، مثلما أن الطفل يشاهد ويحاول أن يؤدي الدور باحترافية، و(التشابيه) عبارة عن تمثيل يجسد الواقعة وينقل الحدث؛ لذلك يتفاعل الأطفال مع هذه الوقائع، ويحاول كل منهم أن يأخذ دوره الذي يرغب به، إن الأطفال بمنزلة المرآة التي تعكس الواقع الذي يعيشون فيه، ويحاولون أن يؤطروه، إضافة إلى أن ماساة الإمام الحسين (عليه السلام) فيها الكثير من القضايا، منها قضية الطفولة التي تجسدت في السيدة رقية (عليها السلام) وغيرها من الأطفال. إن التفاعل العجيب للأطفال مع قضية الإمام الحسين (عليه السلام) هو سر من أسرار تلك القضية، فنجدهم في أول أيام محرم ينصبون المواكب الصغيرة، ويرتدون الملابس السوداء، ويقفون في الطرقات لتوزيع المياه والطعام، فمن الذي طلب منهم ذلك؟ ومن نادى عليهم؟ ومن استصرخهم؟ إنها الفطرة المحمدية العلوية الحسينية المترسخة في أعماق تلك النفوس البريئة الطاهرة التي تتمسك بدرب الإمام الحسين (عليه السلام) لتزرع الحب والسلام، وترسم المحبة والوئام في بقاع الأرض، وتنادي: لبيك يا أبا عبد الله. وأبدى الرادود الحسيني أبو سجاد البصري رأيه قائلًا: بعض الأحداث والمواقف في يوم عاشوراء إن قرأناها بعقولنا، فلا تكون مقبولة، لكن إن قرأناها بقلوبنا، فنتقبلها، وما يقربها ويوضحها للقلب هي (التشابيه)، وسبب قبولها هو الحب للإمام الحسين (عليه السلام) وهو أصل القضية، ومثال عليه هو ذلك الحسيني الشجاع (عابس الشاكري) الذي عندما واجه جيش الضلال، رمى لامته ودرعه وذهب بصدرٍ عارٍ، وهذا خلاف المنطق العسكري، لكنه أذهل من رآه من الأصحاب، حتى قالوا له: أجننت ياعابس، فماذا قال؟ (حب الحسين أجنني)(1)، وهنا يأتي دور التشابيه في تبيان قضية عاشوراء الحسين (عليه السلام) وترسيخها في نفوس الأطفال وقلوبهم، حيث إن الطفل في أعوامه الأولى يعيش مراحل نمو العقل، فهو يعيش في مرحلة الفطرة، وهي أنقى المراحل، حيث الحب هو الحاكم في هذه المرحلة، وعندما يرى هذه التشابيه تهيج بداخله مشاعر الحب، والشوق، والحنين، إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا الحال يأخذه معه لباقي عمره كالنقش على الحجر، فمثلًا عندما يرى في التشابيه الطفل الرضيع وهو بين يدي أبيه يتلظى عطشًا حتى فطمته السهام، أو يرى القاسم وهو كأقحوانة أرجوان مزقتها سيوف بني أمية أو رقية التي كانت نجمة في سماء عمها القمر، ويرى أصحاب الحسين (عليه السلام) وهم يضحون ويلبون نداء: "ألا من ناصرٍ ينصرني"(2)، فسيعرف الأطفال أن عاشوراء ليست قضية تأريخية عابرة، بل هي تضحية، وحياة، وسفينة نجاة لتستنقذ العباد من الجهالة وحيرة الضلالة، وهذا ما يجعل الطفل عندما يكبر يكون إنسانًا حي الضمير، ذا مبدأ راسخ. هكذا هي المشاهد وأثرها، فما يلتقطه الطفل في صغره يشكل شخصيته وهويته. ...................... (1) أدب الطف: سيد جواد شبر، ج8، ص 172 (2) حياة الإمام الحسين: ج 3، ص 274