الإمامُ عليٌّ (عليه السلام) مَعَ الناكِثينَ
بعد مقتل عثمان توجّهت أنظار الثوّار إلى الإمام علي (عليه السلام) يطلبون منه أن يتسلّم الحكم ولكنه أبى عليهم ذلك وامتنع عن الاستجابة الفوريّة؛ لضغط الجماهير والصحابة عليه بقبوله الخلافة، فقد أراد (عليه السلام) أن يضعهم أمام اختيار يكتشف به عن مدى استعدادهم لتحمل أسلوب الثورة في العمل لئلّا يروا فيما بعد أنه استغلّ اندفاعهم الثوري ولهذا أجابهم بقوله: "دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإن الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكّرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعليّ أسمعكم وأطوعكم لمن وليتمّوه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً".(1) ولكن الناس أصرّوا على أن يلي الحكم وإن أفضل ظرف مؤات للإمام لتمديد الإجراءات التغييريّة هو هذا الظرف الثوري الذي عاشته الأمّة الإسلاميّة ولم يكن بالإمكان تأجيل إجراءات الإمام إلى ظرف آخر تنطفئ فيها تلك الشعلة الثوريّة المستعرة وتبرد فيها العواطف. بعد التي واللتيا استجاب الإمام (عليه السلام) لهم وتسلّم الحكم في مجتمع ورث الفساد فباشر (عليه السلام) سياسته في عدّة من الميادين: أولاً: ألغى مبدأ التفاضل في العطاء وأعلن مبدأ المساواة بين كلّ المسلمين وبين المسلمين وغيرهم سواءً في الحقوق أم في الواجبات، فجاء هذا في قوله (عليه السلام): "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه".(2) ثانياً: إعادة الأموال الطائلة التي أعطاها عثمان خواصه، وكلّ مال أعطاه من مال الله تعالى فهو مردود إلى بيت المال، فإن الحقّ لا يبطله شيء، وإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحقّ فالجور عليه أضيق. ثالثاً: عزل ولاة عثمان عن الأمصار قائلاً (عليه السلام): "ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها.."(3). رابعاً: إسناد ولاية الأمصار إلى رجال من أهل الدين والعفّة والحزم. ويتّضح موقف الإمام عليّ (عليه السلام) من إبعاد طلحة والزبير عن ولاية البصرة بأن البصرة والكوفة فيهما الرجال والأموال ومتى تملّك طلحة والزبير فيها رقاب الناس يستمِلْهما الطمع ويعمّ البلاء وبسبب هذا الإجراء دبّرا حركة تمرّد في البصرة هدفها إسقاط حكم الإمام علي (عليه السلام)، وذلك تحت ستار الثأر لعثمان.(4) فنكثا البيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وخرجا مع عائشة إلى البصرة، فلما بلغوا (الحوأب) نبحتهم كلابها وهاجمت جمل عائشة، فسألت عن اسم الموضع فأجابها سائق الجمل أنه الحوأب، فاسترجعت بعد أن ذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحذيره إياها منه، وقالت: (ردّوني إلى المدينة) فشهد طلحة والزبير شهادة كاذبة فقالا: هذا الموضع ليس الحوأب قد أخطأ مَن قال ذلك، فتحرّك الركب إلى البصرة، ولما بلغوا البصرة توقفوا ليلاً عند دار عثمان بن حنيف عامل عليّ (عليه السلام) فأسروه وضربوه، ثم قصدوا بيت المال، وحاول أمناؤه دفعهم ولكن فشلوا فجُرح بعضهم وقُتل سبعون نفراً منهم. تحرّك أمير المؤمنين (عليه السلام) نحو البصرة بسبع مائة فارس، ولما بلغ محلّة ذي قار أرسل الإمام الحسن (عليه السلام) وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنهضان أهلها لجهاد البصريين ولما بلغاها انضم من الكوفيين سبعة آلاف نفر. جرت واقعة الجمل في موقع يُعرف بالحربيّة, قُتل فيها من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) خمسة آلاف نفر، ومن أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألفاً، وكان من شهدائها زيد بن صوحان، ولما جلس الإمام (عليه السلام) عند رأسه قال: "رحمَكَ اللهُ يا زيد، قد كنتَ خفيفَ المؤونةِ عظيمَ المعونةِ".(5) ................................... (1)نهج البلاغة: ج1، ص217. (2)موسوعة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): ج5، ص194. (3) ميزان الحكمة: ج2, ص261. (4) الأئمة الاثنا عشر: ص63، 64، 67، 93. (5)منتهى الآمال: ج3، ص25.