الطير الذبيـح
كانوا منشغلين بما لديهم من واجب، واجب مقدس جعلهم يلمون شتات الأمور، ترافقهم حزم الأمتعة المضيئة بالأنوار البراقة، الممزقة لخلجات الظلام الذي اكتسى به الكون في ذلك الزمن الأبله، لقد صمموا بعزائم الصبر على تغيير مجاري الحياة، ينحدر من أحشائهم عبق الإيمان المختلط بدمائهم الزكية، كانت الرسائل تتساقط على كفوفهم كوابل المطر، تطالبهم بطي صفحات العذاب المخيم على رؤوس الأقوام المذلولة، من دون تسويف ساقوا القوافل نحو المصير المحتوم، تلبية للنداءات المبحوحة، كانت نظراتهم لبعضهم تبني الآمال بأن الزمان سيعود إلى عهده ما إن يلتقي السيف بالسيف، ما إن تتساقط الدموع دمًا من الجدران في الأرض الحرام. رافقتهم رفرفة الطيور حديثة الميلاد التي عانقت بحمرة بشرتها لياليهم المتوهجة مع شعاع القمر المطل على صفحات خيامهم الدافئة، لم يذق أي منهم طعم الخوف، حطوا الرحال في الأرض التي جردت رحابها من معنى السلام، تذكروا صفحات تلك الرسائل، فلم يجدوا فيها الحروف، فرنت في قلوبهم أجراس الألم على العهود المهتوكة، كانت القلوب مؤصدة والنوافذ مؤصدة، أجالوا الأبصار في منتصف الطريق، فلم يجدوا ذلك الجمع الغفير، تراجعت الخطوات المشبوهة عن قوافلهم؛ فرمقوا السماء بعين الرضا. وسط تلك الظروف المريبة والرايات الممزوجة بألوان الحقد، كانت عيون الطير تستدير نحو الوكر مع كل رمشة جفن دلالةً على حديث خاص كان يدور بينهما بالنظرات: _ لماذا تبدو المدينة شاحبة إلى هذا الحد؟ لا أتذكر أنني حلقت فوق حشود مدججة بمختلف الرايات كهذه، حتى السماء هنا تبدو بلون آخر. _لعلها تعي المصير المحتوم، فهذه المدينة خلقت لتغطية الأجساد المتناثرة المحطمة بفعل الأزمان المجنونة، قد تكون شاحبة، إلا أن لها وهجًا ساطعًا عما قريب لا يستطيع أحد أن يرمقه إلا من خلق بقلب كبير. _إلى ماذا تشير هذه الكتائب الموزعة على الجهات الأربع؟ لماذا تبدو بهذه الهيأة المريبة، بأصوات الأقدام الباطشة؟ من أين جاءت هذه الوجوه الصفراء، السمراء، السوداء، الملتصقة ببعضها كحزمة القش؟ _إنها إشارة للخلاص القريب، لقد عزمنا على مواجهتها وإن تيبسنا بلظى الأحقاد كأوراق الخريف. _كيف سنرتوي إذا مات النهر وحل الظمأ؟ بحركة مباغتة وفي الوقت الذي سكنت فيه الغصة في النفوس الكريمة، هرولت آلاف الأجساد مندفعة بما لا يحصى من الغايات، بثوران حمم الدماء وعواصف الأتربة والرمال، تمتزج الأصوات الثكلى بالحوافر اللئيمة، عسى أن تدرك رفة جسد، هوت على الأرض عشرات الجباه النورانية، شديدة الاصفرار، ممزقة الشفاه، تصطبغ وجوهها بخليط الدماء والتراب، أطراف مبتورة، وسيقان متروكة، وعيون ترتعش محاولة استرجاع جزء من طاقتها لإلقاء السلام الأخير على الإمام، كانوا يلمعون في الأفق مع شدة زفراتهم المدوية، كانت الفراشات الطموحة تستلقي على هاماتهم، مداعبةً لحظات الانتصار، انطلقوا في كل الجهات متحدين شفرات السيوف الملتهبة، يلبون نداء الجهاد بين يدي السراج، زمجروا وأرعدوا، وفرقوا تلك الجموع، وما إن هوت الكفوف الكريمة، حتى انحنت الظهور، اختفت زمجرة الأصوات وعلا صراخ الطيور من وسط الأوكار، بجفاف الريق بصرخات الحنجرة المتفطرة ماتت الآمال، واحتضن اليأس ما تبقى من خيال. في اللحظات الأخيرة التي اقتربت الأقدار من دق طبول الانتصار، وقبل أن تمد سلالم النور نحو السماء، رفرف الطير بين أحضان الربيع شغوفًا إلى بلة الريق، تتقدم الخطى بتلك الرفرفة حاملة أعظم رسالة إلى البشرية على مر التاريخ، في الوقت الذي مد يده آملًا في رشفة ماء، سقي بقطع الوريد، فيما تلقفت السماء منه تلك الدماء، حلقت بين يديه ملائكة الجنان بمختلف أنواع الزهور. ليسوا مقاتلين، ليسوا موتى، هؤلاء الأنقياء كماء تبدى لغسل الهوان، لغسل الجباه، لإعادة الرونق إلى الوجوه الحزينة.