رياض الزهراء العدد 208 الحشد المقدس
إرث الشهادة
تفحصت أوراقي الماضية، كنت أبحث ليلة أمس عن قصيدة كتبتها قبل أعوام، تداخلت الأوراق مع بعضها، منها ما شدني بقوة لأعيد قراءتها، ومنها ما مر بين أناملي مرور الريح فوق حجارة صماء، بيد أن حفنة من الأوراق فرضت نفسها بقوة للدخول في حيز بصري وربما بصيرتي أيضًا، فقرأت أول أسطرها، فسال مجرى الأنين، وتقاطر دمعي المفعم بالفخر عند قراءتي: ها نحن نعيش أولى ليالي شهر محرم الحرام، ساحات المعارك تشهد بطولات استثنائية، سطرها رجال آمنوا بقضية الحق، وضحوا بأرواحهم دفاعًا عن الدين والوطن، كان (علي) المكنى بـ(أبو حيدر) أحد هؤلاء الأبطال، وقبل أيام وبينما كان العراق يحيي شعائر عاشوراء الحسين (عليه السلام)، تصدى أبو حيدر لهجومٍ إرهابي شنه تنظيم داعش على نقطة أمنية شمال شرقي (بعقوبة)، وواجه المهاجمين بشجاعة فائقة، وتمكن من إحباط هجومهم، إلا أنه استشهد في المعركة، تاركًا وراءه سيرة عطرة تخلد تضحياته. لم تكن تضحية أبي حيدر مجرد رقمٍ يضاف إلى قائمة الشهداء، بل كانت رمزًا للصمود والتضحية في سبيل القيم والمبادئ، فقد ألهمت بطولته زملاءه في الحشد، ودفعتهم إلى مواصلة النضال ضد الإرهاب، مثلما أن استشهاده في شهر محرم الحرام، حمل دلالاتٍ عميقة، تجسدت بارتباطه بالإمام الحسين (عليه السلام)، ومسيرته الخالدة في الدفاع عن الحق والعدالة. لا أدري كيف مرت الأعوام وأنا أخبىء هذه الصفحات في درج ذاكرتي المتشحة بصور الغائبين عن مواكب العزاء في هذه الليلة! عدت واستخرجت أقلامًا، وصورًا، ومفاتيح، وبعض القصاصات، رمقتها بنظرة فاحصة، وأزلت عن عيني غشاوة الدمع لأوقظ حواسي مرة أخرى، وأستنطق إرث الشهادة هذا الذي تبقى منه، وأقول لصورته: ستجيء مرة أخرى، سنشم عطرك في كل موكب حسيني، سيخضر وشاحك مع كل علم يرفع في الطف، وسنتلو قصتك في مطلع كل حكاية؛ حينها سنرى ذراعيك تمتدان لتلطم الصدر تزامنًا مع أكف أيتامك حينما يهتف ابنك: (لبيك يا حسين) وهو يناديك من بين أفواج الملبين: أهلًا أبي، تراني الآن أفي بعهودي.