منهاج ومعراج

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 156

إن واقعة الطف من الوقائع العقائدية والحضارية المؤثرة الكبرى في التاريخ التي لا يملك الإنسان نفسه من أن يمر عليها مرورًا عابرًا، أو يقف عليها وقوف المتفرج، فعلى الرغم من مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على هذه الواقعة المفجعة، إلا أنها لا تزال تمتلك تأثيرًا فوق العادة في النفوس، والقلوب، والعقول، وتفرض قوتها على كل من آتاه الله بصيرةً ووعيًا، ولا تزال الأجيال تتلقى قضية عاشوراء بحرارة وحماس، وتتفاعل معها، وتتخذ من تلك المواقف المشرفة نهجًا وعبرًا، فما السر الكامن في هذه الواقعة الذي جعل منها مرآةً للحق، ومحقًا للباطل عبر هذا التاريخ الطويل؟ لم يكن هناك أي التباس في أمر واقعة الطف، ولم يكن أحد من المسلمين يشك في أن الإمام الحسين (عليه السلام) يدعو إلى الله تبارك وتعالى ورسوله، وإلى الاستقامة على الصراط المستقيم، وأن يزيد ـ عليه لعنة الله ـ قد تجاوز حدود الله، وأعلن الحرب على الله ورسوله بأفعاله المشينة، فالحق بين، والباطل بين. والحق يقال إن القليل من مشاهد الصراع بين الحق والباطل ما يمتلك هذا الوضوح الذي تمتلكه واقعة الطف، فلم يكن أمر سيد شباب أهل الجنة خافيًا على أحد من المسلمين، مثلما لم يكن أمر يزيد بن معاوية وسلالة الشجرة الملعونة في القرآن الكريم خافيًا على أحد، فلو تساءلنا قليلًا: لم وقف بعضهم متفرجًا على الرغم من وضوح الصراع؟ هل كان خوفًا على الأرواح؟ أم حرصًا على حطام الدنيا؟ وكيف زهد بعضهم في روحه، ومكانته، وما يملك، وقدم روحه رخيصةً في سبيل الحق، وآثر الحياة الأخرى على الدنيا لينال رضا ربه وإمام زمانه؟ أسئلة جديرة بالتفكر والتأمل كي نرسم منهاج حياتنا، وخريطة التوفيق. أجل، إن معركة الطف بكل تضحياتها ومواقفها، تهز المشاعر من الأعماق، وتوقظ العقول، وتفتح مغاليق القلوب، وتفجر الطاقات الكامنة في نفس الإنسان، وتنتشله من مستنقع الحياة الراكدة إلى قممها العالية، وتمزق حجب التعلق بالدنيا. لقد وقف سيد الشهداء (عليه للسلام) والثلة الطيبة من أهل بيته وصحبه وقفة الشموخ والإباء، لبسوا القلوب على الدروع، وقطعوا كل صلة تربطهم بالدنيا، من جسور وأبواب، وتاجروا مع الله سبحانه بكل سخاء حفاظًا على الدين ونهجه القويم، وهي تجارة لن تبور، فكم من الاستعداد نحتاج؟ وكم من الجسور والأبواب الدنيوية نغلق؟ وكم من اللياقة الروحية نمتلك لنتسلق قمم الهمم العالية؟ فنحن مقبلون على يوم الفرقان الأكبر، يوم الظهور المبارك، وكلنا نغبط (بريرًا، وحبيبًا ـ رضوان الله عليهما ـ ونغبط الحر بن يزيد الرياحي ـ رضوان الله عليه ـ) إذ فتح له باب التوبة في وقت قصير، فخير نفسه بين الجنة والنار، وفاز في خياره. الوقت لا يزال سانحًا، فلنحسن الاختيار، ونتخذ من مواقف عاشوراء للدنيا منهاجًا، وللآخرة معراجًا.