رياض الزهراء العدد 208 ملف عاشوراء
صدق القول هو الفصل
تعددت الكتابات وتفننت الأقلام في الحديث عن الإمام الحسين (عليه السلام)، أو العلاقة معه، فكل يكتب ما يفيض به وجدانه وحبه وعقيدته، وقد استوقفني بيت من الشعر من قصيدة للشيخ عبد الحسين الأعسم (قدس) التي نظمها في الإمام الحسين (عليه السلام) المعروفة باليائية، قال فيه: تبكيك عيني لا لأجل مثوبة لكنما عيني لأجلك باكيه(1) لا ننكر أن الأبيات الأخرى في القصيدة تحمل العمق الإيماني والحب الكبير لسبط النبي (صلى الله عليه وآله)، لكن يظل هذا البيت عالقًا في الذاكرة للبحث بين كلماته، والكشف عن بعض ما دار في خلد الشاعر ليكتب قصيدة كهذه، تلامس الوجدان، وتظهر معدن المؤمن الصادق، فالجميع يعلم أن البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فيه من الأجر والثواب ما لا يحصى عدده، فكيف يقر الشيخ الأعسم (قدس) بأنه يبكي على الإمام الحسين (عليه السلام) من دون البحث عن الثواب؟ لعل الجواب يكمن فيما ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فعن الإمام جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: "إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا، ثم قال (عليه السلام): "بأبي قتيل كل عبرة، قيل: وما قتيل كل عبرة يا بن رسول الله؟ قال: لا يذكره مؤمن إلا بكى"(2)، وهنا ميز المؤمنين عن المسلمين، وهم الذين يحملون لواء الإيمان المطلق بالنبوة والإمامة والقضية الحسينية، ذلك الذبح العظيم الذي جعله الله تعالى منارةً للعباد وللعالم أجمع، تضيء طريق الإيمان والإسلام والحق، فالكلام في النهضة الحسينية ومعركة الطف، يثير الشجون ويحرك العواطف، ويوصل حبال المودة والمحبة بين الإمام والمؤمنين بقضيته، الذين يؤمنون من دون حسابات أو رجاء لقربى أو زلفى، وهي بكل الأحوال تحقق هذا الغرض، لكن الوصول إلى هذه المرتبة ليس بالهين، فهو يحتاج إلى سلوك طريقين، هما: 1ـ التحلي بعمق الشعور بالقضية، وأن صاحب القضية لم يختر الموت؛ لأن اختيار الموت يعني الانتحار، إنما اختار الاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق، فالنضال في سبيل الحق حتى الموت هو من شيم الرجولة والبطولة والنبل، فأي ذبيح يتحلى بهذه الصفات وأكثر قد اختاره الله تعالى ليحمل لواء الشهادة؟ 2ـ التخلي عن ملذات الدنيا وموبقاتها، وما فيها من مناصب وزينة، فكله زائل بزوال الدنيا، وما يبقى هو العمل الصالح، وأي صلاح أكرم على الله تعالى من أن يقدم الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه، وعياله، وأهله قرابين مودة في الله تعالى؟ لعل الشيخ الأعسم (قدس) وصل إلى أبعد مما كتب، فالإحساس بمصاب الطف أعمق من أن يوصف بالكلمات، فكثير من الناس تبكي أو تتباكى لتحصل على الأجر والثواب، أما هو فيريد البكاء على مصاب الحسين (عليه السلام) بغض النظر عن الأجر والثواب، فالأصل هو البكاء على مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) بعيدًا عن التفكير بمصلحة ما، فالأولى هو الولاء للنبي وآله (صلوات الله عليهم) والإيمان بهم، والإيمان بعظمة القضية الحسينية، فقد روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا، حسين سبط من الأسباط"(3)، ولعلنا بالإدراك الروحي والعقلي نرتقي في سلم المعرفة الحقيقية لهذه المسألة، ونفهم أن لا حياة لنا في الدنيا والآخرة من دون الاعتصام بحبل الله المتين والعروة الوثقى حبًا وإخلاصًا وولاءً، ومن دون ذلك فلا ثواب لنا، وهنا يكون الفصل في صدق القول، قول القلب، والنية والاندماج الوجداني مع المصيبة التي أمطرت السماء من أجلها دمًا، والكون كله تغير، فإن لم يكن البكاء من أجل التفاعل العاطفي مع المحبوب، فكيف يحصل الثواب؟ ............................. (1) المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة: ص137. (2) مستدرك الوسائل: ج10، ص318. (3) بحار الأنوار: ج43، ص ٢٧١.