أفعال الإنسان بين الجبر والاختيار

رجاء علي البوهاني/كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 162

إنّ مسألة كون الإنسان مختارًا أو مجبرًا في أفعاله، لمن أكثر المسائل التي شغلت فكر البشرية، فهي من المسائل المهمّة؛ لما لها من علاقة وثيقة بمصير الإنسان الأخروي، فضلًا عن الدنيوي، فكون الإنسان يتحمّل مسؤولية العمل الصادر عنه، ويتحمّل عواقب أفعاله، خيرًا كانت أم شرًّا، أو لا يتحمّلها بل هو بريء منها، ولا يتحمّل إصر أفعاله وتبعاتها، لهي مسألة شغلت فكر المفكّرين من إلهيين ومادّيين. تنشقّ هذه المسألة إلى شقّين، وأحد الشقّين هو القول بجبرية الإنسان وأنّه مسلوب الاختيار، واختلف مَن ذهب إلى هذا الرأي في تفسيره لهذه المسألة بحسب فهمه، والملاكات التي يجعلها محور بحثه، وبما يرتبط بالله تعالى من تقديره وقضائه، أو علمه الأزلي، أو مشيئته المتعلّقة بأفعال الإنسان، وهذه هي نظرية (الأشاعرة)، فقد ذهبت هذه الفرقة الكلامية إلى القول بجبرية الإنسان في أفعاله، وأنّه مسلوب الإرادة والاختيار، بل الإرادة في كلّ فعل يفعله الإنسان هي إرادة الله سبحانه، وكلّ فعل هو فعل الله تعالى، واستدلّوا ببعض الآيات والذي يدلّ على فهمهم للآيات فهمًا بعيدًا عن مدرسة العترة الطاهرة (عليهم السلام)، وهذه النظرية وإنْ تضمّنت إثبات السلطنة المطلقة للباري (عزّ وجلّ)، إلّا أنّ فيها القضاء الحاسم على عدالته سبحانه وتعالى؛ لما فيها من نسبة الظلم إليه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، إذ مفاد هذه النظرية أنّ الله تعالى يجبر العبد على فعل المعصية، ثم يعاقبه عليها، ويشبه الفكر المادّي هذا الاتجاه، غير أنّه يسند فعل الإنسان إلى العوامل المادّية، وهي الوراثة، والتربية، والبيئة التي تُعرف بـ(مثلّث الشخصية)، إذ إنّ شخصية كلّ إنسان وقناعاته تتكوّن في ظلّ هذه العوامل الثلاثة، فهي التي تشكّل الشخصية، فيكون لها الأثر الفاعل في أفعال الفرد واختياراته، وبما أنّها عوامل خارجة عن اختياره وإرادته؛ لذا فهو مجبور في فعله. وأمّا الشقّ الثاني من المسألة، فهو القول بالاختيار، وينقسم بحسب منطلقات القائلين به إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الاختيار بمعنى التفويض، أي ليس لله سبحانه أيّ دخل في فعل العبد، وأنّ ذات الإنسان وإنْ كانت مخلوقة لله تعالى، إلّا أنّها مستقلّة في اختيارها استقلالًا تامًا عن القدرة والمشيئة الإلهية، وهذا هو مذهب (المعتزلة)، فأثبتت نظريتهم العدالة للباري تعالى، إلّا أنّها نفت بشكل قاطع سلطنته المطلقة، وأسرفت في تحديدها. القسم الثاني: الاختيار بمعنى أن يكون الإنسان بلا لون ولا ماهيّة، فهو مذ يبصر النور، يوجد بلا خصوصية ولا نفسية خاصّة، بل يكتسب الكلّ بإرادته وفعله، وهذا منطق (الوجوديين) في الغرب. القسم الثالث: الاختيار بمعنى (الأمر بين الأمرين)(1)، وهو عقيدة الشيعة الإمامية، فلا جبر على الإنسان ولا تفويض تام في فعله، وهذا هو موقف القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام)، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تنفي الجبر والتفويض، وتدلّ على منهج الأمر بين الأمرين لكلّ مَن أمعن وتدبّر فيها، والآيات الكريمة الراجعة إلى المقام تنقسم إلى مجموعات ثلاث: أولًا: آيات تصرّح بأنّ كلّ ما يحدث في الكون ويصدر عن العباد، فأنّه يقع بإذن الله تعالى ومشيئته، كقوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين (التكوير:29). ثانيًا: آيات تفيد أنّ الإنسان مختار في أفعاله، وهي عديدة، منها قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا○ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس:7ـ8). ثالثًا: آيات تصرّح بأنّ كلّ فعل يصدر عن العبد، فله نسبتان: إحداهما إليه، والأخرى إلى الله تعالى، من دون تزاحم وتضادّ بينهما، كقوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ (الأنفال:17). أمّا بالنسبة إلى السنّة الشريفة، فقد تضافرت الروايات عن المعصومين (عليهم السلام) لبيان عقيدة الأمر بين الأمرين، مثلما ورد في الروايتين: 1ـ روى هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقونه، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد"(2). 2ـ رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين"(3). وعلى ضوء هذه الأدلّة ذهبت الإمامية إلى الإيمان بهذه العقيدة التي تثبت بها العدالة والسلطنة لله سبحانه معًا، فالله تعالى حكيم في أفعاله، ولم يجبر العباد على طاعة ولا على معصية، مثلما لم يخرجوا من سلطانه بطاعتهم أو بمعصيتهم إياه، بل كلّ ما يفعلونه هو بإذن منه وإقدار؛ ليميز المطيع منهم من العاصي، فيثيب المطيع على ما أطاع باختياره، ويعاقب العاصي على ما عصى وتجرّأ به على الله تعالى باختياره. ................................... (1) الإلهيات: ج2، ص266. (2) الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ١٦٠ (3) بداية المعرفة: ص103.