رياض الزهراء العدد 209 أنوار قرآنية
رأس الحسين (عليه السلام) يترنم بآيات القرآن
الإمام الحسين (عليه السلام) هو القرآن الناطق في جميع مراحل وجوده، فهو ربيب بيت الوحي، ومخدوم الملائكة، ولم يفترق عن القرآن الكريم في حياته وبعد شهادته، فقد تكلّم رأسه الشريف أكثر من مرّة في أكثر من موضع، وكان أغلب كلامه تلاوة بعض الآيات من القرآن الكريم، وهي كرامة توضّح للأجيال عظمة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وارتباطها الوثيق بالله سبحانه وتعالى في جميع مراحلها، فالحسين (عليه السلام) هو ترجمان القرآن. ورد في الروايات التاريخية أنّ الرأس الشريف تلا آيات القرآن الكريم في أكثر من موضع، منها: ـ أنّه صُلِب رأس الحسين (عليه السلام) بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (الكهف:١٣)، فلم يزدهم إلّا ضلالًا، وسُمع أيضًا صوته بدمشق يقول: "لا قوة إلّا بالله"، وسُمِع أيضًا يقرأ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (الكهف:٩)، فقال زيد بن أرقم: أمركَ أعجب يا بن رسول الله(١). ـ رُوي عن زيد بن أرقم أنّه قال: مُرّ به عليّ ـ رأس الإمام الحسين عليه السلام ـ وهو على رمح وأنا في غرفة لي، فلمّا حاذاني، سمعتُه يقرأ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (الكهف: ٩)، فوقف والله شعري، وناديتُ: (رأسكَ والله يا بن رسول الله أعجب وأعجب)(٢). ـ عن المنهال بن عمرو، قال: رأيتُ رأس الحسين بن عليّ (عليهما السلام) على الرمح وهو يتلو هذه الآية: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (الكهف:٩)، فقال رجل من عرض الناس: رأسكَ يا بن رسول الله أعجب(٣). ـ عن سلمة بن كهيل، قال: رأيتُ رأس الحسين (عليه السلام) على قناة وهو يقرأ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة:١٣٧)(٤). ـ عن الحارث بن وكيدة، قال: كنتُ فيمن حمل رأس الحسين (عليه السلام)، فسمعتُه يقرأ سورة الكهف، فجعلتُ أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله، فقال لي: "يا بن وكيدة، أما علمتَ إنّا معشر الأئمة أحياء عند ربّنا نرزق"؟ قال: فقلتُ في نفسي: أسرق رأسه، فنادى: "يا بن وكيدة، ليس لكَ إلى ذاك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييرهم رأسي: فذرهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ࣪ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (غافر:٧٠-٧١)(٥). لو تأمّلنا قليلًا الآيات التي تلاها سيّد الشهداء (عليه السلام)، لوجدنا دلالاتها تصبّ في بيان بشاعة الظلم وعاقبة الظالمين، وكذلك تصوير عذابهم في الآخرة، وتمكين النصر والظفر لمَن سلك طريق الحقّ والعدل، ونجد أيضًا تلاوة الرأس الشريف لبضع آيات من سورة الكهف وفي أكثر من موضع ومكان، بالتأكيد فإنّ ذلك له أسرار ودلالات معنوية وقصدية قد لا تسعها عقولنا القاصرة، لكنّنا نحاول أنْ نفهم عن طريق السياق القرآني لسورة الكهف ومقاصدها، والجوّ العام لها بعض الدلالات، منها: ـ مقاصد السورة وجوّها العام هو التحذير من الفتنة، فقد ذكرت السورة أربعة أنواع من الافتتان في أربع قصص قرآنية: 1ـ فتنة الاعتقاد: جاءت في قصّة أصحاب الكهف. 2ـ فتنة المال: جاءت في قصّة صاحب الجنّتين. 3ـ فتنة العلم: جاءت في قصّة النبيّ موسى والخضر (عليهما السلام). 4ـ فتنة السلطة: جاءت في قصّة ذي القرنين. مثلما ذكرت السورة ضمنًا كيفية الوقاية من تلك الفتن والابتلاءات؛ لهذا أكّدت الروايات الشريفة على أنّ هذه السورة تقي من فتنة الدجّال، فقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "مَن قرأها فهو معصوم ثمانية أيام من كلّ فتنة، فإنْ خرج الدجّال في تلك الثمانية الأيام، عصمه الله من فتنة الدجّال...)(٦)، وعنه (صلّى الله عليه وآله): "...سورة أصحاب الكهف مَن قرأها يوم الجمعة غفر الله لهُ إلى الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيّام، وأُعطي نورًا يبلغ السماء، ووُقِيَ فتنة الدجّال" (٧). ـ أصحاب الكهف هم الثلّة المؤمنة التي واجهت السلطة الحاكمة الظالمة حفاظًا على دينهم ومعتقدهم، ورفضهم الظلم والطغيان. ـ تمكين المظلومين من إبراز مظلوميتهم ولو بعد حين، فنلحظ في القصّة أنّ مطاردة السلطة لأصحاب الكهف واتّهامهم بالكفر قلبت المعادلة لصالحهم بعد قرون، وأصبحوا معجزة إلهية لأصحاب الإيمان والبصيرة. ـ قصّة أصحاب الكهف تتكرّر في كلّ الأزمان ما دام الحقّ والباطل يدقّان طبول حربهما الأزلية منذ بدء الخليقة حتى القيامة، وعلى المرء أن يحدّد في أيّ صفّ يكون. وعلى ضوء تلك الدلالات يتّضح أنّ نطق الرأس الشريف كان لكي يثير القلوب، ويلفت الانتباه إلى تلك الفتن، ويحذّر منها الأمة الخانعة للظلم، والمتخاذلة عن الحقّ وأهله، وتوضيح سبل التحصّن من تلك الفتن بمعرفة الحقّ وأهله واتّباعهم، ورفض الظلم وأهله ومحاربتهم، وهي مبادئ نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) الأساسية التي يجب أن تنهض بها الأمة من جديد بعد انتكاستها، وكذلك يرشد الإمام (عليه السلام) إلى أنّ الكهف الذي ينجي من المهالك ويصيّر المظلوم إلى معجزة ربّانية، هو كهف الإمامة الذي يحافظ على خطّ النبوّة من تحريف الظالمين وفقًا لمصالحهم الشخصية وعلى حساب الرعيّة؛ ولهذا ظلّت عاشوراء ملحمة خالدة، ونبراسًا لكلّ الأجيال التي تتبع الحقّ، وتنشد العدل، وترفض الظلم حتى قيام دولة العدل الإلهي على يد إمامنا القائم (عجّل الله فرجه الشريف). .............................................. (١) مناقب آل أبي طالب: ج3، ص68. (٢) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٤٥. (٣) مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): ج٢، ص٢٦٧. (٤) معالي السبطين: ص٥٣٤. (٥) دلائل الإمامة لابن جرير الطبري الإمامي: ص١٨٨. (٦) مجمع البيان: ج٦، ص٢٧٣. (٧) تفسير الأمثل: ج٩، ص١٨٧.