لست وحيدة

د. زهراء منصور الحلفي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 225

بين وحشة النفس ووحشة الغيوم التي لبّدت السماء، تعيش روحي غربتها وأنا أطلّ ببصري من الطابق العلوي لكلّيتي، أراقب الجميع ببطء وهم يرحلون، فصديقتي غادرت بعد أن وصلت السيارة التي تقلّها إلى بيتها، إذ سارعت إحدانا تقبّل الأخرى، وتعانقها بشدّة ثم افترقت يدانا المتشابكتان، فلا أزال أحسّ بدفء الحنين يملأ يدي. مؤذية تلك الأصوات التي أسمعها من موظّفي الكلّية وهم يغلقون الأبواب مسرعين؛ ليأخذوا المفاتيح ويذهبوا أيضًا. في هذا الوقت كلّ شيء أراه وقد انتهت صلاحية ممارسة دوره: أساتذتي، زملائي، كلّ واحد منهم أخذ مهرولًا بحقيبته بعد أن تملّكه الإرهاق والتعب، سيطر الصمت على المكان وقد خيّمت عليه ملامح الحزن والوحدة، أحسستُ كأنّ نبضات قلبي توقّفت ولم أعد أتنفّس، نظرتُ يمينًا وشمالًا، فلم أجد أحدًا، عاودتُ النظر إلى الأسفل حتّى وصلتُ ببصري إلى آخر نقطة باتّجاه المخرج، لكن يبدو أنْ لا جدوى، فالمكان قد خلا من أهله، والسيارة التي تقلّني إلى بيتي لم تأتِ بعدُ، شعرتُ برغبةٍ شديدةٍ بالبكاء، حينها سرحتُ بأفكاري، وسافرت بي مشاعري إلى حيث السبايا، سبايا كربلاء حيث السيّدة الطاهرة العقيلة زينب (عليها السلام)، والفاطميّات، والأطفال الصغار، والرضّع (عليهم السلام أجمعين)، وزين العباد عليل كربلاء الإمام السجّاد (عليه السلام)، تتقدّمهم الرؤوس الشريفة، رؤوس الشهداء الأبرار بعد أن فارقت الأجساد، تاركينها على أرض الطفّ في كربلاء، فأيّ وحشةٍ قد أحاطت بقلوب السبايا بعد أن فارقوا الأحبّة، فمنهم مَن فارق أبًا، أو عمًّا ومنهم مَن فارق أخًا، أو صاحبًا، ومنهم مَن فارق ابنًا، وأغلبهم مَن فارق كلّ هؤلاء قاطعين طريقًا طويلًا، شاقًّا، مملوءًا بلوعة الفقد، ونار الغربة، فقد أخذت كلّ قبيلة وعشيرة نساءها من الركب الحسيني المطّهر، إلّا بنات الرسالة بقينَ في الغربة، وصلوا الشام غرباء، عتّمت عليهم الأرض بما حملت من وحشة الفراق، ووحشة الليل، ووحشة الظُلم، ووحشة الشام التي زغرد أهلها فرحين، وهم يستقبلون جمع الأحرار بعزف المزامير، فأيّة غصّة قد ألمّت بقلب أمّ المصائب (عليها السلام) في ذلك الوقت؟ وأيّة غربةٍ؟ وأيّة وحشة؟ بأيّ شعور أحسّت جبل الصبر (عليها السلام) لحظةَ دخولها قصر الطاغية الملعون يزيد بدون كافلها، أخيها، حبيبها، وأسدها أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، وعندما أخذ اللعين يتشمّتُ بها (عليها السلام)، ويظهر البهجة والسرور، ويبدي التشفّي، عندئذٍ لم أحتمل هذا الموقف، فأخذتُ أجهشُ بالبكاء، مرّت برهة وأنا على هذه الحال، رهينة أفكار قد اشتبكت فيما بينها، فلم تعد تسعفني ممّا أنا فيه، بعدها ولوهلة رفعت رأسي إلى السماء، فإذا بالغيوم قد تلاشت، وأشرقت الشمس بمحيّاها من جديد، وأبصرتُ السماء زاهيةً بألوانها، رائعةً بجمالها، تأسر الأنظار، انشرح صدري، وغمرتني سعادةً لا تسعها حدود، تيقّنتُ أنّني لستُ لوحدي، عفوكَ ربّي، فلا غربة ما دمتَ معي، أدركتُ أنّ ما جرى حدث لأستفيد، وأعتبر أنّ علينا جميعًا أن نحزم حقائبنا بالعمل الصالح، ولا ننسَ ذكر الله سبحانه، ونستعدّ للرحيل في كلّ لحظة، بخاصّة وأنّنا لم نتّخذ للنهاية مع الحياة موعدًا مثلما الآن وهكذا نوسّد قبورنا بعد إن فارقنا الأهل، والأحبّة ونحن مطمئنّون فلا وحشة والله معنا وقد آنسنا.