العباس (عليه السلام) والنهر

رحاب حسين العريفاوي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 31

في كلّ مساء مع سكون حركات الكون الصاخبة، لا تكفّ صورته عن التوهّج أمامي، تتّبع عيناي خطواته الشابة، كلّما قطع خطوة غلت بين جنبيّ حرارة الشوق الحارقة، أكرّر النظرات الوردية، فيرمقني بوهج غرّته الهاشمية، فيرتعد قلبي هامسًا: ماذا أفعل؟ لماذا تجري الأمور هكذا؟! تمضي الأوقات وتتوالى نبضات الحبّ الخضراء، لم يكن بيدي تغيير مجرى الحياة سوى الاكتفاء بالنظرة الدافئة، في الساعات التي جلس فيها قبالتي بتأمّلاته الخاصّة، حيث امتدّت يداه ليلامس عبق رائحته الزاكية حدودي المتلهّفة، فأغوص في روعة جماله، حينها يلاطفني الأصدقاء الشامخون بقربي بشغب نسيمهم الموقد للأجواء الفارهة: ـ عليكَ أنْ تدرك أنّنا كلّنا مشتركون، فلا يمكنكَ احتكار ذلك الجمال لوحدكَ! ـ مع أنّه متاح لكم جميعًا، إلّا أنّنا خُلقنا لنقل الحكاية معًا. مع انعكاس أشعّة الشمس، تتساقط خطوط أشعّتها المتراقصة على جرفي، على عزف الأعشاب، معطية للأجواء رونقًا وجمالًا لا يُضاهى، بينما تحلّق الفراشات والطيور بكلّ أنواعها وألوانها، تتمايل الأغصان صعودًا وهبوطًا مع نسمات الرياح المنغمسة في برودة أمواجي المتراصّة، مع شعاع البلورات الفضّية اللامعة على ضفافي، تجتمع كلّها تأهّبًا لاستقبال خطواته، فأزداد به ولعًا جديدًا، أنتظر بصبر ذلك الوهج الذي يقبل نحوي بخطىً واضحة، فتهرع آمالي محرّضة قلبي على الطيران، تتألّق مع التماعة جبيني الساكنة، حينما يحدّق في وجهي، فتتشابك الكلمات في نفسي لتعيش فيها بسكون، فينظر لبرهة ثم يدير وجهه تدريجيًا. لماذا يصيبني الإرباك؟ فتتلاطم أمواج الأسئلة في ذهني كالمعرّض لاختبار عشوائي، أحاول الهتاف بصورة غير مجدية، فتصبّرني النجوم طوال الليالي المفعمة بالترقّب الكبير. بأنفاس القلب المرتعش في الوقت المألوف للمواعيد، يطلّ هذه المرّة بوهج كبير كالقمر في ليالي الاكتمال، كانت الأضواء المنبعثة من رونقه تخرج من طيّات ثيابه الخضراء التي زادته رونقًا وبهاءً، تفوح من جوانبه رائحة المسك، تتهادى خطواته على الأرض فينبت الزهر بألوانه البرّاقة، لم تفارقني نظراته، ممّا جعلني أراقب حركاته المنسجمة كسطور الكتاب، أركض خلفه في مختلف الاتجاهات، فأتأكّد من إرادة الخالق التي صاغته في عيون الدهر جوهرًا متحرّكًا، مثل درّة يتيمة ينساب بين الخلائق، تخطف الأنظار طلّته البهيّة، فتهفت الشمس وتبهت ألوان الأشياء كلّها أمام رونقه. لأول مرّة كان مستعجلًا إلى درجة لم أكن في باله، نسي شغفي به، هرول كالبرق الخاطف، تحرّك كشعلة ناريّة، وفجأة تعالت الصرخات، وتزلزلت الأرض، وخيّم الذهول على المكان مع زمجرة الأصوات، كانت الرياح كريمة في نقل هدير صوته المدوّي وسط ذلك الضجيج، أنهى مَهامّه؛ ليحين وقت اللقاء، فنعيد تطريز قصص الحبّ الجديدة. في تلك الأوقات التي انشغلنا فيها بنقل الحكاية الكبرى وسط الضجيج المنبعث من فوهة البركان، في وقت أداء المَهمّة العظمى توخزني أصابع الاتّهام بلا هوادة، فأصحو على صخب الحوارات الساخنة، لم أكن على وعي كامل بما يجري، فما يزال رنين ذلك اليوم المدجّج يوصد آذاني عن الاستماع، فأحاول إماطة اللثام عن وعيي لأستوعب ما يدور من حولي، فأنتبه على صراعات وشتات متنوّع، وكلام ملخّصه أنّي خائن: ـ جبان، كان عليه الهرولة بلا أقدام. ـ كان عليه شقّ الأرض نصفين، والانفجار حتى السماء. ـ أنصحكم بعدم الإصغاء إلى مبرّراته الكاذبة. ـ لا تكفّوا عن نقل بشاعة موقفه، لقد كان ضنينًا بما يكفي ليلازمه العار حتى النهاية. ـ لقد أخطأ، مع أنّه لا يمكن محاسبة النهر بصفة متّهم. صحوتُ على أصوات الاتّهام من دون سابق إنذار، تلاحقني العيون المغرورقة بالدموع، مع الزفرات الموقدة بالحسرات العميقة، تقترب منّي الأيدي بالصفعات، ويخيّم البؤس على وجه كلّ مَن يلقاني، لم أكن أعلم ماذا كان ينتظرني في تلك الأيام. في كلّ مكان مشيتُ فيه، كانت هناك ردّة فعل غاضبة، كلّ ساعة تمرّ تلد تجاهي نظرة حقد جديدة، رافقتني الغصّة المريرة، والحسرات المحبوسة في الجوف العميق، والدموع المنهمرة بسرّ في الليالي الكئيبة، أنتظر مَن يمسح عن جبيني وصمة العار التي طبعتها الظروف الجائرة. في منتصف الوحدة القاتمة، شعرتُ بانسياب تهادى إلى روحي يجذبني كالمغناطيس، سحبتُ حدود ضفافي نحو جهة مجهولة خجلًا، أحاول التمسّك بالأعواد الغريبة وبقايا الزوارق القديمة، توسّلتُ بالنجوم لتمدّ لي ومضة نور، لكن شيء ما يسحبني بسرعة، أصبتُ بالعجز التّام، شيء ما يشقّ طريقي نحوه، صوت كأنّه قادم من السماء، أردتُ أنْ أصرخ فأخرسني عطاء سيّد الماء، استيقظتُ لأجدني بين يديه وأنا أنظر لعينيه قائلًا: عيناكَ يا أيّها القمر المنير أنبتتا في القلب سحرًا إذا كنتَ معي فقد هانت كلّ الخطوب