ثَمن فقدان الرحمة

زبيدة طارق الكناني/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 62

في لحظة تلاشت فيها الحدود بين الماضي والحاضر، وعادت الأحزان تغزو سامرّاء من جوف الطوامير، تناثرت فيها الأوراق القديمة بحروفها المتهالكة؛ لتتعانق حكايات الحزن مع أطلال الحنين، فتكتم أنفاس الذاكرة التي تأبى النسيان، وترمي بحطام انكسارها على أوهام التفاسير التي تأوّهت، ولم تعدْ تكتم تلك الأشجان التي شوّهت مسام الوجدان؛ لتفضح غصّاتها المكتومة الوجع الذي تجرّعته مدينتي بمرارة، وصار لها جرح للتذكير، ومن غير بوصلة الأمان توجّهتْ لمدينة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ لتغرق معها وتلفظ أنفاسها على نوح القصائد. رسمت معها على رماد الأحلام وجوهًا باهتة تبكي وحشتها، قد كسرت عواصف الهمّ مجاديفها، ومات الشوق بطعنة الخذلان، وتجرّع أقداح السقم من قارورة قساوة قلوب الأنام ‏الذين تعاهدوا عهدًا لكلّ فناء. فباتت الحيره تكسو الحياة في المدينة، مثلما اكتست بالجور، وسقط منها الأمان، فقد رحل أنسها الحبيب، وبالشهادة قد ظفر، وضمير الحقّ تحت السقيفة اندثر. فأوقدت الشموع على ذكرى مصاب جلل، حطّم وفتّت شرايين الرسالة لتُصاب الأمة بشلل مصاب له آهات موجعات، وشهقات تنزف ألم الفراق. تتوسّل الشفقه من عيون غريبة لتواسيها، وتستنجد من الظلم، فهل من منقذ؟! الكون كسير، ترك رياح الهمّ تعصف بشجرة العمر وعقارب الزمان، لتنهب أوراق الربيع، وتصفع عواصف الخوف أحلامه بالسلام. وأنا تائهة بين أزقّة ذكريات سامرّاء، وبين حسرة في خافقي تكسّرت وأصبحت بقايا حطام، أتنفّس من مسام همس أذان الفجر. يرسل حروفًا ينتشر عبقها عبر الأثير أريجًا يأبى إلّا أن يعبق باسمه (محمّد)، فلم تنبض الرحمة لأحد سواه، فيتردّد: (أشهد أنّ محمّدًا رسول الله)؛ ليردّ إليّ نبض روحي المكفّنة في قبر ضلوعي، فيؤنس غربتي، وتحنّ جفوني إلى دموع حزني الذي يجوب شِعاب قلبي بذكرى الرحيل. تلهث روحي إليكِ يا مهجة القلب تعطّشًا؛ لعلّي أجد بين جراحكِ بلسمًا لجراحي، فأقف بصمت على أطلالكِ المنكسرة، وأستلهم الشوق لذلك الحبيب من أضرحة العصمة، فنبكي معًا، ونبكي ونشكو إلى البارئ فَقْد نبيّنا (صلوات الله عليه) الذي دقّ ناقوس خطر التفرقة والظلم الذي شتّت الأمة، ففاتورة اليُتم باهظة الثمن، وغَيبة وليّنا (عجّل الله فرجه) التي حطّمت الصبر فينا، وشدّة الفتن التي ما تزال تطؤنا وتخنق صوت الحقّ، لكنّنا ما نزال تحت رحمة الستّار، وعزاؤنا أن يكون فرج الله قريبًا.