رياض الزهراء العدد 209 الحشد المقدس
سر العمود رقمِ (1)
الظلام يلفّ السماء، والنجوم تتلألأ كأنّها ماساتٌ مبعثرة، بينما يمشي حشدٌ من الرجال والنساء حفاةً على طريق مُغطّىً بالتراب، يردّدون بصوتٍ واحدٍ عبارات الحزن والخشوع. خرجتُ من باب قبلة مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسألتُ عن الطريق إلى كربلاء، فأجابني أحد الشيبة قائلًا: من هنا، سيري بهذا الاتّجاه حتى تصلي إلى العمود رقم (1). سرتُ وعيناي تبحثان في الأفق عن هذا الرقم، وعقلي يحاول أن يربط بين هذه المعادلة الأبدية: العمود رقم (1) والطريق إلى كربلاء، ثم سرحت بي أفكاري وأذكاري أيضًا وسرتُ، وما إنْ رفعتُ رأسي وإذا بي أقف عند صورة شاب وسيم معلّقة على العمود، وقد خُطّ أعلى اسمه عبارة (الشهيد). عادت بي ذاكرتي إلى حديث أمّي الراحلة، حيث سبقتني بعدّة أعوام إلى مسير زيارة الأربعين، وقصّت عليّ حين عودتها، فقالت: كنتُ أسير وسط هذا الحشد، وكان شاب أنيق يسير إلى جانبي، كان في مقتبل العمر، يرتدي عباءةً سوداء، ويحملُ بيدهِ رايةً خضراء، وعيناهُ تفيضان بالدموع، كلّما رمقني قال لي: أمّاه، دعيني أساعدكَ في حمل الحقيبة، وأخبرني أنّ اسمه (عليّ)، وهو عائد في إجازة من ساحات القتال لأيام معدودة ليشارك في مراسيم زيارة الأربعين، ثم يعود من جديد إلى سوح الدفاع. كان (عليّ) أحد مقاتلي الحشد الشعبي الذين لبّوا نداء المرجعية الدينية، وخرجوا للدفاع عن وطنهم ومقدّساتهم وإنقاذ الوطن من براثن تنظيم داعش الإرهابي، وأخبرني أنّه شارك في العديد من المعارك، ونجا من الموت بأعجوبةٍ أكثر من مرّة؛ لكنّه لم يفقد إيمانهُ يومًا، ولم يتخلّ عن واجبه المقدّس. سار (عليّ) معي لأيامٍ وليالٍ، متحمّلًا مشقّات الطريق، وفي إحدى المراحل تعرّض موكبنا لهجومٍ مفاجئ من قِبل عناصر داعش الإرهابي، فدافع (عليّ) عن الموكب بشجاعةٍ فائقة، وقتل العديد من المهاجمين بعد أن ساعد الأخوة في قطعات الجيش؛ لكنّه أُصيب بجروحٍ خطيرةٍ في صدرهِ، وبعدما انجلت الغبرة وتبدّد الشرّ سقط على الأرض، ونادى: يا حاجّة، إذا وصلتِ إلى مرقد الحسين (عليه السلام) فأبلغيه سلامي، فأرجو أن أكون قد وفيتُ ويقبلني في زمرة الشهداء، وفاضت روحهُ الطاهرة تاركًا وراءه ذكرى عطرةً، ودروسًا في الإيمان والشجاعة والتضحية. حمل رفاقهُ جثمانهُ الطاهر، ودفنوهُ في مقبرة من مقابر كربلاء، ليصبحَ شهيدًا في درب الأربعين، وشاهدًا على عظمة هذا التجمّع المليوني، وخلود رسالة الإمام الحسين (عليه السلام). لا يزالُ (عليّ) حاضرًا في قلوب كلّ مَن عرفهُ، يُلهمهم الصبر والصمود في وجه التحدّيات. انتهت حكاية أمّي مع الشهيد (عليّ)، وعندما وصلت إلى كربلاء أعطتني الراية التي سلّمها إياها (عليّ) لتودعها عند حامل اللواء وقمر العشيرة وهي ملطّخة بدم الشهادة، حينها أدركتُ سرّ العمود رقم (1) الذي كان يحمل صورة الشهيد (عليّ)، وعرفتُ سرّ طريق (يا حسين) كيف يُعبّد بالدماء الزكيّة؛ ليكون محور الزيارة، وبوصلة الأحرار، ولن تنتهي الحكاية إلى أبد الدهور.