رياض الزهراء الأربعينية
ثمار من رياض الأربعين
لم يكن يتصوّر أنّ إشراقة شمسه ستكون بهذه الصورة من الخفوت، حتى ذُبالة المصباح تبدو أكثر إضاءة من هيأة هذا الشاب. ـ لماذا تحدّق في الأرض طوال رحلتنا؟ لا تظنّ أنّنا لم نقرأ القلق المنحوت في وجهكَ طوال تلك الأيام. ـ لا شيء، إنّه (عليّ) فقط. ـ ما به؟ ما الذي يجعلكَ مستاءً إلى هذا الحدّ. ـ فجأة ومن دون سابق إنذار ظهرت عليه حالة غريبة منذ (9) أشهر، وها أنا عاجز عن معالجتها، بات يشكّ في طهارة أيّ شيء، حتى أنّه لم يعد يتناول الطعام من أيّ أحد، إنّه يعيش على أكل الفواكه وبعض الخضروات، ولا يتحمّل أنْ يلمس أشياء غيره أو أنّ أحدًا ما يُمسك أشياءه، الأدوات، الصحون، الأثاث، إضافة إلى ميله الشديد للعزلة، لقد أصبح أفراد العائلة في تعب شديد، هل تتصوّر أنّه بات يغسل ملابسه بيده؟ كلّ يوم يمرّ تزداد حالته وحالنا سوءًا. ـ لذلك صار نحيفاً للغاية، أعانكم الله، فلنحاول أنْ نفعل شيئاً من أجله. ـ كنتُ أودّ استشارة الأصدقاء، لكن الخجل منعني من ذلك. في الوقت الذي بدأ فيه والده وأصدقاؤه نسج الخُطط لإخراجه من شباك الوهم والوسوسة، كان (عليّ) يتصارع مع ذاته في الساعات الأخيرة من الليل في تنظيف سجّادة الغرفة من الذرّات غير المرئيّة الملتصقة بها، كان أخوته ينظرون له باستغراب عندما يلتقط اللاشيء من الأرض ويتّجه به نحو سلّة المهملات، فيتفحّصون السلّة فلا يجدون سوى الفراغ. توصّل الحاجّ (أحمد) المعروف بين أصدقائه بالحكمة وطول البال إلى حلّ بأنْ يعرضوا على أبي عليّ وبفضل أيام الأربعين وزيارة سيّد الشهداء (عليه السلام) أنْ يصطحب ابنه من مدينة النجف الأشرف إلى كربلاء بذريعة زيارة الإمام عليّ (عليه السلام)، وبذلك سيضطرّ الرجل مع ابنه إلى المبيت بين الناس، وسيضطرّ الشاب إلى مخالطة الناس ومشاركتهم الطعام والشراب، ومن ثم سيتغلّب على شكوكه، فضلاً عن التبرّك بهذا الطعام الذي أُعدّ باسم سيّد الشهداء (عليه السلام) خدمةً لزوّاره ومحبّيه، الفكرة التي لمّت شتات قلب أبي عليّ المتحيّر، الذي لا ينفكّ عن مخاطبة نفسه طوال الساعات في انتظار تلك الأيام العظيمة: ـ وأخيراً، يا سيّد الشهداء ها هي أيام الأربعين تطرق الأبواب، فأعنّي على تغيير حال هذا الولد، فأنتَ الكريم وأنتَ الذي تعرف طعم الإصابة بالولد، أنتَ الأمل الوحيد يا سيّدي. أمسك الرجل بيد ابنه يشقّ عباب الطرق بازدحامها وبتنوّع الوجوه، من العرب، وغير العرب، من الفقراء والأغنياء، من الرجال والنساء، من الشباب والكهول، بينما كان وجه ابنه يطرح علامات الاستفهام عن سرّ تركهم مدينتهم القريبة من حرم الإمام الحسين (عليه السلام) واتّجاههم نحو النجف للعودة إلى المدينة ذاتها! كان (عليّ) ينفض ثيابه في كلّ ثانية خوفاً من التصاق اللاشيء بها، وبينما أجبره الجوع على رمق الصحون التي كانت الناس تتوسّل ببعضها أن تتبرّك بهذا الطعام، هاجمته شكوكه وبدأ التصارع مع الذات، فجلس قرب والده الذي كان يحاول إقناعه بتناول ولو لقمة واحدة، وبعد عدّة دقائق رمق الشاب رجلًا يبدو أنّه قد انتهى من تناول الطعام توّاً، فتأمّل في بقايا الصحن وسط عشرات الصحون الجديدة التي لم تمتدّ إليها يد، جلس الشاب بعد التسمية على مائدة الطعام مكملاً صحن الرجل، قاتلاً كلّ الشكوك.