التفكر في الخلق طريق إلى معرفة الخالق

رجاء علي البوهاني/كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 116

إن الطرق إلى إثبات وجود صانع لهذا الكون وما فيه كثيرة جدًا ومتنوعة، فهي مثلما يقول أهل المعرفة: بعدد أنفاس الخلائق، إلا أن أبسط هذه الأدلة وأوضحها هو (برهان النظم) الذي يعد من أوضح البراهين العقلية وأيسرها تناولًا للجميع؛ لذلك كان أحد البراهين الشائعة التي احتج بها الأنبياء والمرسلون، فهو مبتنٍ على أن مشاهدة النظام الدقيق والبديع السائد في هذا الكون والنظم الذي يحكمه، طريق إلى المعرفة والاهتداء إلى وجود الله تعالى، وقد أرشد القرآن الكريم في آيات عديدة إلى التفكر في الظواهر الطبيعية في هذا الوجود، وجعلها طريقًا ودليلًا إلى معرفة الخالق والصانع لهذا الوجود، كقوله تعالى: ﴿إن فی خلۡق ٱلسمـٰو ٰ⁠ت وٱلۡأرۡض وٱخۡتلـٰف ٱلیۡل وٱلنهار وٱلۡفلۡك ٱلتی تجۡری فی ٱلۡبحۡر بما ینفع ٱلناس وماۤ أنزل ٱلله من ٱلسماۤء من ماۤءࣲ فأحۡیا به ٱلۡأرۡض بعۡد موۡتها وبث فیها من كل داۤبةࣲ وتصۡریف ٱلریـٰح وٱلسحاب ٱلۡمسخر بیۡن ٱلسماۤء وٱلۡأرۡض لآیتࣲ لقوۡمࣲ یعۡقلون﴾ (البقرة:164)، فهذه الآية وغيرها من الآيات تؤكد على التأمل في كل الظواهر الطبيعية التي من حولنا والتعرف عليها والتفكر فيها، والغور في آثارها وخصوصياتها، لا بمعنى الوقوف عند هذا التأمل والتعرف واتخاذه هدفًا، بل بمعنى اتخاذ تلك المعرفة جسرًا لمعرفة بارئها وخالقها، ومن أوجد فيها السنن والنظم، فمن المعلوم أن لهذا العالم سننًا وأنظمةً معقدةً تحكمه، من أصغر شيء فيه وهو الذرة، إلى أكبر شيء وهو المجرة. ويقوم (برهان النظم) على مقدمتين: إحداهما حسية والأخرى عقلية. أما الحسية: فهناك نظام سائد في الظواهر الطبيعية التي يعرفها الإنسان، إما بالمشاهدة بالعين المجردة، وإما بفضل الأدوات والطرق العلمية، وما تزال العلوم الطبيعية تكشف مظاهر أبعاد جديدة من النظام السائد في عالم الطبيعة. وأما العقلية: فالعقل بعدما لاحظ النظام وما يقوم عليه من الحساب والتقدير والتوازن والانسجام، يحكم بالبداهة بأن أمرًا هكذا شأنه، يمتنع صدوره إلا عن فاعل قادر، عليم، ذي إرادة وقصد، ويستحيل أن تحققه الصدفة العمياء، فإن تصور مفهوم النظم وأنه ملازم للمحاسبة والعلم، يكفي التصديق بأن النظم لا ينفك عن وجود ناظم عالم أوجده. وهذا بدوره يبنى على قانون عقلي، والذي ينص على أن كل ما في الكون من سنن وقوانين لا ينفك عن وجود علة أوجدته، وأن يكون الشيء بلا علة هو أمر محال لا يعترف به العقل، وهذا القانون يدركه الإنسان بفطرته ووجدانه، فكلما شاهد الإنسان تحفةً فنيةً، أدرك أن هناك فنانًا قد أبدعها وأنجزها، وكذلك كل مصنوع بديع يراه من حوله، يهديه إلى أن هناك علةً أوجدته وأنجزته، ولم يتحقق في العالم الخارجي صدفةً، بل يكتشف أيضًا من دقة هذا المصنوع خصوصيات ذلك الصانع والمؤثر، من علم، وشعور، ومعرفة، فهذا البرهان لا يثبت فقط وجود خالق وصانع لهذا الوجود، بل هو طريق إلى معرفة ما يتصف به هذا الخالق من الحياة، والعلم، والحكمة، والقدرة.