المفْتون والسر الخفي

كوثر حسين العريفاوي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 125

في الممرات الضيقة، والأزقة المظلمة، في الليل والنهار وتحت المطر الكثيف، وتحت أشعة الشمس الحارقة، يتجول ذلك المفتون، كله ثقة، يضحك في وجوه المارة، يتمايل في مشيته فرحًا، كأوراق الأشجار المتساقطة، تدفعه الرياح، وتتجاذبه يمينًا وشمالًا، يستفز بمشيته السعيدة البؤساء، تتبعه الأنظار، وبين حاسد وحاقد، تجلب له الريح بأكفها كلمات أولئك الذين صاروا خلفه: مجنون، أهوج، معتوه، على ماذا يضحك؟! فلا تهزه تلك الكلمات القاسية، بل يزداد اندفاعًا نحو الحياة، لا توقفه الحوادث، يمر عليها كمن لا يهمه الأمر. حصد الكثير من الأعداء، فكل من في المدينة يكرهه، إلا شخصًا واحدًا يبادله الابتسامة كلما لاقاه، اشتعلت قلوب من حوله عليه بالغيظ لكونه شغل أفكارهم، يريدون فقط معرفة سر الشيء الذي جعله مختلفًا عنهم، فأجمعوا على أن يكيدوا له، وأن يقيدوه ويجبروه على إباحة سره، لكن فشلت خطتهم عندما مر ذو البصيرة بهم، قائلًا: لا يتطلب الأمر كل هذا العناء، فأنا أعرف السر، وسأخبركم جميعًا به، ففرحوا لذلك، فأخيرًا سوف يعرفون سره الخفي. تجمعوا حول ذي البصيرة، فقال: الحقيقة أنه ملأ قلبه بالإيمان بانتهاء الأشياء وزوالها، معتقدًا بأن البقاء لمن صنع الأشياء وأنشأها، واثقًا بديمومة عطائه، واستمرار عطفه، حيث سمعته ذات يوم يردد بصوت خافت: هذه الأرض ليست ملكنا، وما فيها ليس لنا، كلنا ملكه سبحانه وهو أرحم الراحمين، لقد غلب إيمانه أحزانه، وخيباته، ورغباته، فأصبح مثلما ترون، كله أمل، مفتون برحمة الله تعالى.