قصة بلسان طفولتي

آلاء طاهر اللامي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 110

رأيته صامتًا، صامتًا تمامًا، كبيت هجره أهله ونزحوا عنه قهرًا، وغاصوا في دروب الألم؛ لكنه كان يحاور نفسه بلغة أخرى، لغة يفهمها حتى الأصم الأبكم، فحروفها تنساب بين تلابيب الأرواح. كان هذا المشهد المعتاد يتكرر كلما عاود أبي الالتحاق بقطعات الحشد الشعبي، بعد أن يؤمن لنا ما نقتات به في مدة غيابه. بادرته بالسؤال: - لم أنت صامت تمامًا؟ أدار مسبحته الطينية، ثم استغرق بشمها كأنه يستنشق الياسمين، ثم مد كفه اليمنى على رأسي المملوء بأفكار مشتتة، وراح يمسح براحته على هامتي ويمد قلبي الصغير بالسلوى. لبى نداء المرجعية المباركة، وكنت حينها طفلة يجرحها الغياب، ويرتاب قلبها من الفراق، ويكسرها البعد وفراق الأب حتى لأيام أو أسابيع معدودات. تركنا هذه المرة أبي وترك مزرعته وأسرته؛ ليشارك في المعارك، حاملًا سلاحه القديم مستميتًا في دفاعه عن حرمة كربلاء المقدسة، مرددًا عبارات شوق لم أكن أعي معناها ولا دلالاتها. وبعد أسبوع.. وصلت مواكب الشهداء إلى مدينتنا الصغيرة، لقد رأيت فيما مضى أبي وهو يحمل نعش أحد رفاقه ودموعه تنهمر على خده المحمر، المتشرب بسمرة تراب هذا الوطن. لا أعلم لم كان الموكب مهيبًا أكثر من ذي قبل، كان قلبي يسير على الأرض ويتعثر، تذكرت كلمات أبي وهو يروي لي أحداث عاشوراء وكيف أن رقية بنت الإمام الحسين (عليهما السلام) كانت تتعثر برمال صحراء كربلاء وسياط بني أمية تلتوي على معصميها. رفعت أقدامي قليلًا لعلي أرى أبي وهو يقود موكب تشييع رفاقه الحاملين على أكتافهم عبء المسؤولية وحب الوطن؛ ليسطروا بدمائهم الزكية ملحمةً خالدةً في صفحات التاريخ. نعم، لقد كانوا مناضلين من نور، وقفوا بصدور عارية أمام رصاصات الغدر والخيانة، صامدين بوجه العدو اللئيم، مؤمنين بعظمة قضيتهم، مرددين شعار (لبيك يا حسين). تحولوا إلى سيوف من الحق، شقتْ دروب الظلام، وبددتْ غيوم الخوف واليأس، وأعادتْ للوطن شعاع الأمل والحياة، وقدموا أرواحهم الزكية فداءً للوطن وأهله، تاركين وراءهم عائلات ثكلى، وقلوبًا يعتصرها الألم والحزن على فراقهم. هكذا كان أبي يشرح لي قضيتنا الكبرى، ويفسر لي سبب غيابه، ويعبر لي عن عمق فخره وحزنه حينما يزف رفاقه إلى أبواب الجنة. أنا أتفهم كلام أبي تمامًا، لكن أقدامي هذه المرة لا تحملاني لأكمل مسير الموكب إلى ساحة المدينة، حانت التفاتة مني إلى فجوة بين أفواج السائرين، تمكنت أخيرًا من الوصول إلى مقدمة الموكب، نعم، كان أبي يبدو بكامل زهوه، تتلألأ عيناه كأنهما درتان، ركضت إلى احتضانه، هرولت بأسرع ما يمكن لعلي ألحق به، فتبسمت لي صورته المحمولة في مقدمة الموكب وبجانبها راية كبيرة خط عليها (هيهات منا الذلة).